نقل ماء زمزم خارجَ مكة والدعاء عند شربه

نُسب إلى الشيخ الألباني رحمه الله القولُ بأن الدعاء عند شرب ماء زمزم خاصٌّ بمن هو موجود بمكة المكرمة ولا يصلح في أي مكان آخر. فهل على ذلك من دليل؟ وهل هذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم؟ أم أنه اجتهاد خاص بالشيخ الألباني رحمه الله.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن ماء زمزم ماء مبارك، ولم يزل معظمًا في الجاهلية وفي الإسلام، وهو مع اليقين والصدق يغني عن الطعام، ويشفي من السِّقام، وهو لما شُرِبَ له، فيكون سببًا من أسباب قَبُول الدعاء.
والذي عليه جماهير أهل العلم(1)، وتشهد له ظواهرُ النصوص: أن الله قد جعل البركة في ماء زمزم، وأن الدعاء عند شربه ينفع أينما كان، وليس خاصًّا بمكة أو المدينة، فقد صحَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَاءُ زَمْزَمَ لما شُرِبَ لَهُ»(2).
ولم يقيده النبي صلى الله عليه وسلم بكونه في مكة. وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها حملت من ماء زمزم في القوارير، وقالت: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وكان يصبُّ على المرضى ويسقيهم(3).
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم: «إِنَّها مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامٌ طُعْمٍ»(4). زاد أبو داود: «وَشِفَاءُ سُقْمٍ»(5). ولم يقيد ذلك بزمان ولا بمكان، أي شرب مائها يغني عن الطعام، ويشفي من السِّقام، مع اليقين والصدق كما سبق.
وقد ثبت أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه أقام شهرًا بمكة لا قوتَ له إلا ماء زمزم. فعن أبي ذر رضي الله عنه: أنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمُكثه ثلاثين بين يوم وليلة بمكة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ كان يُطْعِمُكَ؟» فقال له: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّها مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامٌ طُعْمٍ».
بل إن التبرك بماء زمزم كان معروفًا في زمان الجاهلية، قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: تنافس الناس في زمزم في زمن الجاهلية، حتى كان أهلُ العيال يفِدون بعيالهم فيشربون فيكون صبوحًا لهم (شرب أول النهار)، وقد كنا نعدُّها عونًا على العيال. قال العباس: وكانت تسمى زمزم في الجاهلية (شباعة)(6).
واستحب كثيرٌ من الفقهاء التزوُّدَ من ماء زمزم وحملَه إلى البلاد؛ لأنه شفاء لمن استشفى، وقد نصَّ كثير منهم على مشروعية نقل ماء زمزم خارجَ مكة، وعلى بقاء بركته وخصائصه حتى بعد نقله.
ففي «حاشية الصاوي على الشرح الصغير»: «(ونُدب نقله- يعني ماء زمزم) وخاصيته باقية خلافًا لمن يزعم زوال خاصيته»(7).
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله في «تحفة المحتاج»: «وأن ينقله إلى وطنه استشفاء وتبركًا له ولغيره».
وقال الملا علي القاري رحمه الله في «مرقاة المفاتيح»: «وأما نقل ماء زمزم للتبرك به فمندوب اتفاقًا»(8). انتهى.
وقد أنكر السخاوي رحمه الله على من زعم أن فضيلة ماء زمزم تبقى ما دام في محله فإذا نقل تغيَّر، فقال رحمه الله: ((يذكر على بعض الألسنة أن فضيلته ما دام في محله، فإذا نُقل يتغير. وهو شيء لا أصل له؛ فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو: «إِنْ وَصَلَ كِتَابِي لَيْلًا: فَلَا تُصْبِحَنَّ، أَوْ نَهَارًا: فَلَا تُمْسِيَنَّ، حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ بِمَاءِ زَمْزَمَ»(9). وفيه أنه بعث له مزادتين، وكان حينئذ بالمدينة قبل أن يفتح مكة. وهو حديث حسن لشواهده.
وكذا كانت عائشة رضي الله عنها تحمل وتُخبر أنه كان يفعله، وأنه كان يحمله في الأداوي والقرب، فيصب منه على المرضى ويسقيهم(10).
وكان ابن عباس إذا نزل به ضيف أتحفه بماء زمزم(11).
وسئل عطاء عن حمله فقال: قد حمله النبيُّ والحسن والحسين رضي الله عنهما(12). وتكلمت على هذا في الأمالي))(13). انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ جَاز؛ فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَحْمِلُونَهُ»(14).
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ((هل يشترط أن يكون الشرب في مكة- يعني لماء زمزم- كي تتحقق بركته؟ فأجاب: لا يشترط، ولهذا كان بعض السلف يأمر مَنْ يأتي به إليه في بلده فيشرب منه، وهو أيضًا ظاهر الحديث «مَاءُ زَمْزَمَ لما شُرِبَ لَهُ»، ولم يقيده النبي صلى الله عليه وسلم بكونه في مكة)). انتهى.
وقال أيضًا رحمه الله: ((ظاهر الأدلة أن ماء زمزم مفيدٌ؛ سواء كان في مكة أم في غيرها، فعمومُ الحديث الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: «مَاءُ زَمْزَمَ لما شُرِبَ لَهُ» يشمل ما إذا شرب في مكة أو شرب خارج مكة، وكان بعض السلف يتزودون بماء زمزم يحملونه إلى بلادهم)). انتهى.
وفي جواب اللجنة الدائمة ببلاد الحرمين لمن سألها عن حديث «مَاءُ زَمْزَمَ لما شُرِبَ لَهُ»: فإذا أردت منه شيئًا أمكنك أن تُوصي من يحجُّ من بلدك ليأتي بشيء منه في عودته من حجه.
هذا. وللشيخ الألباني رحمه الله قولٌ في هذا الباب يوافق ما عليه جماهير أهل العلم:
من ذلك قوله في مناسك الحج والعمرة: ((وله- أي: للحاج والمعتمر- أن يحمل معه من ماء زمزم ما تيسَّر له تبركًا به؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمله معه في الأداوي والقِرَبِ، وكان يصب على المرضى ويسقيهم))(15).
قال الشيخ في تخريج ذلك: أخرجه البخاري في «التاريخ» والترمذي وحسنه من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو مخرج في «الأحاديث الصحيحة» (883)(16).
بل إنه كان يُرسل وهو بالمدينة قبل أن تُفتح مكة إلى سهيل بن عمرو: أن أهد لنا من ماء زمزم ولا تترك فيبعث إليه بمزادتين(17).
قال في تخريجه: أخرجه البيهقي بإسناد جيد عن جابر رضي الله عنه. وله شاهد مرسل صحيح في «مصنف عبد الرزاق» (9127)، وذكر ابن تيمية أن السلف كانوا يحملونه(18). والله تعالى أعلى وأعلم.

__________________________
(1) جاء في «البحر الرائق شرح كنز الدقائق» (3/47) من كتب الحنفية: « وأشار المصنف بذكر صيد الحرم وشجره وحشيشه إلى أنه لا بأس بإخراج حجارة الحرم وترابه إلى الحل؛ لأنه يجوز استعماله في الحرم ففي الحل أولى كذا في المحيط وغيره، وكذلك يجوز نقل ماء زمزم إلى سائر البلاد للعلة المذكورة».
وجاء في «حاشية الصاوي» (2/44) من كتب المالكية: «(وندب نقله): أي وخاصيته باقية خلافا لمن يزعم زوال خاصيته».
وجاء في «حاشية البجيرمي» (2/447) من كتب الشافعية: «وقوله: «ماء زمزم لما شرب له» هو شامل لما لو شرب بغير محله، وهو ظاهر أن ذلك خاص بالشارب نفسه فلا يتعداه إلى غيره».
وجاء في «المبدع» (3/207) من كتب الحنابلة: «فإن اراد أن يستشفي بطيب الكعبة لم يأخذ منه شيئا ويلزق عليها طيبا من عنده ثم يأخذه فأما ماء زمزم فلا يكره إخراجه».
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 357) حديث (14892)، وابن ماجه في كتاب «المناسك» باب «الشرب من زمزم» حديث (3062)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» (883).
(3) أخرجه محمد بن إسحاق الفاكهي في «أخبار مكة» (2/49) حديث (1126).
(4) أخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم» باب «من فضائل أبي ذر رضي الله عنه» حديث (2473) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
(5) أخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» (1/61) حديث (457).
(6) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (5/117) حديث (9120).
(7) «حاشية الصاوي» (2/43-48).
(8) «مرقاة المفاتيح» (5/680).
(9) أخرجه الأزرقي في «أخبار مكة» (2/51).
(10) أخرجه محمد بن إسحاق الفاكهي في «أخبار مكة» (2/49) حديث (1126).
(11) أخرجه محمد بن إسحاق الفاكهي في «أخبار مكة» (2/46) حديث (1118).
(12) أخرجه الطبراني في «الكبير» (3/28) حديث (2566).
(13) «المقاصد الحسنة» (1/569).
(14) «مجموع الفتاوى» (26/154).
(15) «مناسك الحج والعمرة» ص42.
(16) «السلسلة الصحيحة» (2/ 543) حديث (883).
(17) أخرجه الأزرقي في «أخبار مكة» (2/51).
(18) «مناسك الحج والعمرة» ص42.

تاريخ النشر : 07 أكتوبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   06 المناسك

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend