نعي الموتى في المساجد

ما حكم الإعلان عن الموتى في المساجد؟ وهل هذا من النعي المنهي عنه؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن النَّعي منه ما يحلُّ ومنه ما يحرم:
– فإن كان المقصودُ بهذا الإعلان إعلامَ الناس بموت الميت، ليقوموا بحقِّه من شهودِ جنازته، وتهيئَةِ أمره، والصلاةِ عليه، والدعاءِ له والاستغفار له، والترحُّمِ عليه، وتنفيذِ وصاياه، وما يترتب على ذلك من الأحكام، فهو مشروع لا حرج فيه.
ومن الأدلة على جوازه ما يلي:
• ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلى وكبَّر أربع تكبيرات(1).
• وما ورَد في حديث يزيد بن ثابت رضي الله عنه: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ فرأى قبرًا جديدًا فقال: «مَا هَذَا؟» قالوا: هذه فلانة مولاة بني فلان. فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماتت ظُهرًا وأنت نائم قائلٌ فلم نحب أن نُوقظك بها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفَّ الناس خلفه وكبَّر عليها أربعًا، ثم قال: «لَا يَمُوتُ فِيكُمْ مَيِّتٌ مَا دُمْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتِي لَهُ رَحْمَةٌ»(2).
• وما رواه مسلم في «صحيحه» عن أبى هريرة رضي الله عنه: أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد- أو شابًا- ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها- أو عنه- فقالوا: مات. قال: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي». قال: فكأنهم صغروا أمرها- أو أمره- فقال: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا». فدلوه فصلى عليها ثم قال: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وِإِنَّ اللهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ»(3).
• وما ورد من نعيه صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة في المسجد، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب) وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان، (ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرةٍ ففتح له). رواه البخاري.
• وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدًا وجعفرًا وابن رواحة للناس، قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ- وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ- حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ الله حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ»(4).
والنعي المذكور في هذه الأحاديث هو الإخبار عن وفاة الشخص.
– وأما إن اشتمل النعيُّ على ما زاد عن الحاجة، وتضمَّن تشبهًا بأعمال الجاهلية من الغلوِّ فيه، والمبالغة في ذكر مناقبِه، والتَّطْوَاف بذكر مآثره ومفاخره بين الناس، ونحوه، فيمنع من هذا الباب. وهذا هو نعيُ الجاهلية، وإليه تنصرف الآثار الواردة في النهي.
وقد بوب البخاري في «صحيحه» باب: الرجل ينعي إلى أهل الميت بنفسه. وفيه إشارة إلى أن النعيَ ليس ممنوعًا كله، بل منه ما يحلُّ ومنه ما يحرُم.
قال الإمام العيني في «عمدة القاري»: ((ذكر ما يستنبط منه- أي من حديث نعي النجاشي- من الأحكام، وهو على وجوه: الأول فيه إباحة النعي، وهو أن ينادى في الناس أن فلانًا ماتَ ليشهدوا جنازته. وقال بعض أهل العلم: لا بأس أن يُعلم الرجل قرابتَه وإخوانه. وعن إبراهيم: لا بأس أن يُعلم قرابته. وقال شيخنا زين الدين: إعلامُ أهل الميت وقرابته وأصدقائه استحسنه المحققون والأكثرون من أصحابنا وغيرهم. وذكر صاحب «الحاوي» من أصحابنا وجهين في استحباب الإنذار بالميت وإشاعة موته بالنداء والإعلام، فاستحبَّ ذلك بعضُهم للغريب والقريب؛ لما فيه من كثرة المصلين عليه والداعين له. وقال بعضهم: يُستحب ذلك للغريب ولا يستحب لغيره. وقال النووي: والمختار استحبابُه مطلقًا إذا كان مجرَّد إعلام»(5).
ونقل الحافظُ ابن حجر عن ابن رشيد أحد شراح «صحيح البخاري» قوله: «وفائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعيَ ليس ممنوعًا كله، وإنما نُهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يُرسلون من يُعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق. وقال ابن المرابط: مراده أن النعيَ الذي هو إعلام الناس بموت قريبهم مباحٌ، وإن كان فيه إدخالُ الكرب والمصائب على أهله، لكن في تلك المفسدة مصالح جمة؛ لما يترتب على معرفة ذلك من المبادرة لشهود جنازته، وتهيئة أمره، والصلاة عليه والدعاء له والاستغفار وتنفيذ وصاياه وما يترتب على ذلك من الأحكام»(6). انتهى.
وقال النووي في «المجموع»: «والصحيح الذي تقتضيه الأحاديثُ الصحيحة التي ذكرناها وغيرها أن الإعلام بموته لمن لم يَعلم ليس بمكروهٍ، بل إن قصد به الإخبار لكثرة المصلين، فهو مستحبٌّ، وإنما يُكره ذكر المآثر والمفاخر، والتَّطْوَاف بين الناس بذكره بهذه الأشياء، وهذا نعيُ الجاهلية المنهيُّ عنه، فقد صحَّت الأحاديث بالإعلام، فلا يجوز إلغاؤها، وبهذا الجواب أجاب بعضُ أئمة الفقه والحديث المحققين»(7).
ولما كان الأصلُ في الإعلان عن الموتى في المساجد هو إعلامَ الناس بموته واستنفارَهم للصلاة عليه والقيام بحقه- فلا حرج في ذلك، لاسيما في ظل حالة الاغتراب العامة التي تعيشها الجاليات المسلمة خارجَ بلاد الإسلام، ومسيس الحاجة إلى إعلام الناس للصلاة على الميت، فهذه هي الوسيلة التي تُمكِّن الجاليةَ من القيام بحق الميت وتكثير الصلاة عليه.
وللوسائل حكم المقاصد حلًّا وحرمةً. قال العز بن عبد السلام: «للوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضلُ الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل»(8).
وهذا هو الذي رجَّحه الألبانيُّ رحمه الله في «أحكام الجنائز»، حيث قال: «ويجوز إعلانُ الوفاة إذا لم يقترن به ما يُشبه نعيَ الجاهلية، وقد يجبُ ذلك إذا لم يكن عنده مَن يقوم بحقه من الغسل والتكفين والصلاة عليه ونحو ذلك»(9). والله تعالى أعلى وأعلم.

_________________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه» حديث (1245)، ومسلم في كتاب «الجنائز» باب «في التكبير على الجنازة» حديث (951).
(2) أخرجه النسائي في كتاب «الجنائز» باب «الصلاة على القبر» حديث (2022)، وذكره الألباني في «صحيح سنن النسائي» (2022).
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الجنائز» باب «الصلاة على القبر» حديث (956).
(4) أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه» حديث (3757).
(5) «عمدة القاري» (8/19).
(6) «فتح الباري» (3/116).
(7) «المجموع» (5/168-174).
(8) «قواعد الأحكام» (1/53-54).
(9) «أحكام الجنائز» ص32.

تاريخ النشر : 29 سبتمبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   03 الجنائز

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend