السؤال في البلاد التي يشيع فيها التبرج هل يجوز إقامة مغسلة عامة تقوم بغسل وكي الملابس مقابل أجر، علمًا بأنها تستقبل حتمًا ملابس لمتبرجات يخرجن بها قطعًا إلى الشوارع؟ وهل يختلف الحكم في بلاد المسلمين حيث الالتزام بالشريعة عن بلاد الكافرين حيث لا إسلامَ ولا شريعةَ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الأصل في غسل الملابس وكيها مقابلَ أجر أنه عمل مشروع، ولكن الحرج يأتي مما قد يتضمنه في بعض الأحوال من الإعانة على معصية، كمن يتولى غسل وكي ملابس السَّهرات الخارجية التي تكشف فيها المرأة ما أمرها الله بستره، والتي لا تلبس إلا خارج المنزل، ومثله الذي يغسل ويكوي ملابس الفنَّانات اللاتي يقمن فيها بأدوار سينمائية أو تليفزيونية، لا شك أنه يعين بعمله هذا على معصية الله عز و جل ، وقد تمهد عند أهل العلم النهي عن كل عقد أعان على معصية الله عز و جل ، فلا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمرًا، ولا بيع السلاح في الفتنة، ولا لأهل الحرب، والجمهور(1) على تحريم هذه العقود عند التحقق من إفضائها إلى معصية، ومن أدلتهم على ذلك: قوله تعالى:﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
ما جاء عن ابن عباس ب أن النبي ﷺ أتاه جبريل فقال: «يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْـخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْـمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَسَاقِيَهَا وَمُسْتَقِيَهَا»(2).
وما روي عن محمد بن سيرين أن قيمًا كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، وأخبره عن عنب أنه لا يصلح إلا زبيبًا ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره، فأمر بقلعه، وقال: بئس الشيخُ أنا إن بعت الخمر.
ومال الأحناف(3) إلى القول بالكراهية وهو وجه عند الشافعية(4)؛ لأن هذه العقود مشروعة في ذاتها وإنما جاء الخلل من جهة اتصالها بمقصود غير مشروع، مع عدم التحقق من وقوعه؛ فقد يقع هذا المحذور وقد لا يقع، ومثل هذا يقتضي الكراهة.
والخلاصة إن في هذه المهنة تفصيلًا على النحو التالي:
ما كان من هذه الملابس موضع النظر محتملًا للبس داخل البيت وخارجه فلا حرج في غسله وكيه، وتبقى المسئولية على صاحبة الثياب، و﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38].
أما ما كان منها لا يحتمل إلا اللُّبس خارج المنزل وهو مما لا يشرع، فالأصل اجتنابه وعدم قَبوله، وأدنى أحواله الكراهية.
فإن استطاع صاحب المغسلة التعاملَ بهذه القواعد، فلا حرج في القيام بهذا العمل، ولعله بهذا يفتح بابًا جديدًا من أبواب البلاغ، ويقيم منبرًا جديدًا من منابر الدعوة إلى الله عز و جل ، واستفاضة البلاغ ببعض ما أماته الناس من دينه أو استحلوه من حرماته.
ومن عجز عن ذلك وكان لا يملك إلا أن يقبل الجميع أو أن يرفض الجميع، وكان المجتمع الذي يعيش فيه قد غلب على نسائه التبرج، وارتداءُ ما يحرم من الثياب فخيرٌ له أن ينصرف عن هذا العمل إلى غيره؛ فإن أدنى أحوالِه الشبهة، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام(5). والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
(1) جاء في «مواهب الجليل» من كتب المالكية (4/253-255): «وذكر القرطبي والأبي في أوائل شرح مسلم في منع بيع العنب لمن يعصرها خمرًا قولين قال الأبي: والمذهب في هذا سد الذرائع كما يحرم بيع السلاح لمن يعلم أنه يريد قطع الطريق على المسلمين أو إثارة الفتنة بينهم».
وجاء في «المجموع» من كتب الشافعية (9/418-432): «قال الشافعي رحمه الله في المختصر: أكره بيع العنب ممن يعصر الخمر والسيف ممن يعصي الله تعالى به، ولا أنقض هذا البيع، هذا نصه قال أصحابنا: يكره بيع العصير لمن عرف باتخاذ الخمر، والتمر لمن عرف باتخاذ النبيذ، والسلاح لمن عرف بالعصيان بالسلاح، فإن تحقق اتخاذه لذلك خمرا ونبيذا وأنه يعصي بهذا السلاح، ففي تحريمه وجهان حكاهما ابن الصباغ والمتولي والبغوي في شرح المختصر والروياني وغيرهم (أحدهما) نقله الروياني والمتولي عن أكثر الأصحاب: يكره كراهة شديدة، ولا يحرم (وأصحهما) يحرم. وبه قطع الشيخ أبو حامد والغزالي في الإحياء وغيرهما من الأصحاب».
وجاء في «حاشيتي قليوبي وعميرة» من كتب الشافعية (2/229): « ومن المنهي عنه… (بيع الرطب والعنب لعاصر الخمر) والنبيذ أي ما يؤوله إليهما، فإن توهم اتخاذه إياهما من المبيع فالبيع له مكروه أو تحقق فحرام أو مكروه وجهان، قال في الروضة الأصح التحريم والمراد بالتحقق الظن القوي، وبالتوهم الحصول في الوهم أي الذهن، ويصح البيع على التقديرين وحرمته أو كراهته لأنه سبب لمعصية متحققة أو متوهمة».
وجاء في «شرح منتهى الإرادات» من كتب الحنابلة (2/22-23): «(ولا يصح بيع عنب) أو زبيب ونحوه (أو عصير لمتخذه خمرا) ولو ذميا (ولا) بيع (سلاح ونحوه) كترس ودرع (في فتنة، أو لأهل حرب، أو قطاع طريق ممن علم ذلك) ممن يشتريه (ولو بقرائن)».
(2) أخرجه ابن حبان (5356) وصححه الألباني.
(3) جاء في «حاشية ابن عابدين» من كتب الحنفية (4/268): «(ويكره) تحريمًا (بيع السلاح من أهل الفتنة إن علم) لأنه إعانة على المعصية».
(4) جاء في «المجموع» من كتب الشافعية (9/418-432): «قال الشافعي رحمه الله في المختصر: أكره بيع العنب ممن يعصر الخمر والسيف ممن يعصي الله تعالى به، ولا أنقض هذا البيع، هذا نصه قال أصحابنا: يكره بيع العصير لمن عرف باتخاذ الخمر، والتمر لمن عرف باتخاذ النبيذ، والسلاح لمن عرف بالعصيان بالسلاح، فإن تحقق اتخاذه لذلك خمرا ونبيذا وأنه يعصي بهذا السلاح، ففي تحريمه وجهان حكاهما ابن الصباغ والمتولي والبغوي في شرح المختصر والروياني وغيرهم (أحدهما) نقله الروياني والمتولي عن أكثر الأصحاب: يكره كراهة شديدة، ولا يحرم (وأصحهما) يحرم. وبه قطع الشيخ أبو حامد والغزالي في الإحياء وغيرهما من الأصحاب».
(5) سبق ذكره وتخريجه استبرأ لدينه» حديث (52).