ما حكم مجاورة قبُور المسلمين لقبور غير المسلمين بحيث يحيط بهما سُور واحد؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد تمهَّد في الشريعة تميُّز المسلمين بمقابرهم عن غيرهم من أتباع الملل الأخرى، وهذا هو الذي عليه عملُ أهل الإسلام قاطبةً، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومن بعدهم على مدارِ القرون، فكان هذا إجماعًا عمليًّا على إِفراد مقابر المسلمين عن مقابر غير المسلمين.
ولِما رواه النسائي عن بشير بن الخصاصية قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمَرَّ على قبور المسلمين، فقال: «لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلَاءِ شَرًّا كَثِيرًا». ثم مرَّ على قبور المشركين فقال: «لَقَدْ سَبَقَ هَؤُلَاءِ خَيْرًا كَثِيرًا»(1). فدل هذا على التفريق بين قبور المسلمين وقبور المشركين.
ومما يُبرز اهتمام الفقهاء بمسألة تميُّزِ قبور المسلمين عن قبور غيرهم- ما جاء في خلافهم في موت الكتابية وهي حامل من مسلمٍ، فقد رويت في هذه المسألة عن أهل العلم ثلاثة أقوال:
قال بعضهم: تُدفن في مقابرنا ترجيحًا لجانب الولد. وهو قول للشافعية(2). وتنزل منزلة صندوق للولد.
وقال بعضهم: تُدفن في مقابر المشركين؛ لأن الولد في حكم جُزء منها ما دام في بطنها، وهو المروي عن الزهري وعطاء(3).
وقال واثلة بن الأسقع: يتخذ لها مقبرةً على حدة، وهو مذهب الجمهور؛ فقد أخذ به الحنفية(4). وهو الأصح عند الشافعية(5). والمذهب لدى الحنابلة(6). وهو الأحوط، كما ذكره ابن عابدين نقلًا عن «الحلية»(7).
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى عن امرأة نصرانية بعلِها مسلم، تُوفيت وفي بطنها جنينٌ له سبعة أشهر، فهل تُدفن مع المسلمين أو مع النصارى؟
فأجاب: «لا تُدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر النصارى؛ لأنه اجتمع مسلم وكافر، فلا يدفن الكافر مع المسلمين، ولا المسلم مع الكافرين، بل تدفن منفردة، ويجعل ظهرها إلى القبلة؛ لأن وجه الطفل إلى ظهرها، فإذا دفنت كذلك كان وجه الصبي المسلم مستقبلَ القبلة، والطفل يكون مسلمًا بإسلام أبيه، وإن كانت أمه كافرة باتفاق العلماء»(8).اهـ.
وقال الخرقي: «وإن ماتت نصرانيةٌ وهي حاملة من مسلم دُفنت بين مقبرة المسلمين ومقبرة النصارى…». ووجَّه ابن قدامة هذا القول فقال: «اختار هذا أحمد؛ لأنها كافرةٌ لا تدفن في مقبرة المسلمين فيتأذوا بعذابها، ولا في مقبرة الكفار؛ لأن ولدها مسلمٌ فيتأذى بعذابهم، وتدفن منفردة، مع أنه روى عن واثلة بن الأسقع مثلَ هذا القول. وروي عن عمر أنها تُدفن في مقابر المسلمين. قال ابن المنذر: لا يثبت ذلك، قال أصحابنا: ويُجعل ظهرُها إلى القبلة على جنبها الأيسر ليكون وجهُ الجنين إلى القبلة على جانبه الأيمن؛ لأن وجه الجنين إلى ظهرها»(9).اهـ.
والظاهر أن المسألة مصورة فيما إذا نُفخ فيه الرُّوح، وإلا دُفنت في مقابر المشركين.
وعلى هذا. فإذا تميزت مقابرُ المسلمين وتحيَّزت، وأحاط بها سُور خارجيٌّ مثلًا، أو فَصلَ بينها وبين مقابر غيرهم فاصلٌ من طريق أو فراغ أو نحوه؛ فقد تحقق التمايزُ المنشود، وكلما كان التميُّز أظهرَ كان الأمرُ أدخلَ في باب المشروعية، ولعل هذا الأمر واقعٌ على هذا النحو في كثير من بلاد المسلمين، حيث تتجاور القبور ولكن مع التمايز والتحيُّز.
وبالنسبة لقضية المرأة الكتابية التي تموت وهي حاملة من مسلم، إذا لم يتيسر- وهذا هو الأغلب- دفنها في مقبرة مستقلة، فالذي نختاره دفنها في مقابر المسلمين رعاية للولد. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
(1) أخرجه النسائي في كتاب «الجنائز» باب «كراهية المشي بين القبور في النعال السبتية» حديث (2048)، وحسنه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (2048).
(2) جاء في «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (2/135): «لو ماتت ذمية في بطنها جنين مسلم ميت، جعل ظهرها إلى القبلة ليتوجه الجنين إلى القبلة، لأن وجه الجنين على ما ذكر إلى ظهر الأم. ثم قيل: تدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار. قيل: في مقابر المسلمين، فتنزل منزلة صندوق الولد. وقيل: تدفن في مقابر الكفار» .
(3) «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (2/374).
(4) جاء في «مراقي الفلاح» (ص630): « وإذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار أو موتاهم بموتاهم فإن كان المسلمون أكثر يصلي عليهم وينوي المسلمين وإلا فلا إلا من عرف أنه من المسلمين ويتخذ لهم مقبرة على حدة كذمية ماتت حبلى بمسلم » .
(5) جاء في «أسنى المطالب» (1/326): « (ولو اختلط مسلمون بكفار أو ماتت كافرة) ولو حربية أو مرتدة (وفي بطنها جنين مسلم) ميت (قبروا فيما بين مقابر المسلمين والكفار) وجوبا لئلا يدفن الكفار في مقابر المسلمين وعكسه».
(6) جاء في «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (2/557): «(وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها إن أمكن، وإلا دفنت مع المسلمين) ، وهذا الصحيح من المذهب ».
(7) «حاشية ابن عابدين» (2/201).
(8) «مجموع الفتاوى» (24/295-296).
(9) «المغني» (2/420).