حفظك الله يا شيخنا، نعمل في سلسلة محلات مشهورة في مصر، وأصحاب العمل صالحون، وبعد الأحداث المؤسفة التي حدثت في الكنيسة قال لنا أصحاب العمل: كل واحد يلبس شارة أو علامة سوداء يضعها على يده حزنًا على ما حدث، والذي لا يضعها يُخصم له من مُرتَّبه.
فما حكم هذه العلامة؟ ما حكم وضعها؟ وإذا رفض صاحب العمل فماذا نفعل؟ لأن بعضهم قال لي: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق(1)، ونخشى حدوث فتنة، فما رأي فضيلتكم؟ برجاء سرعة الإجابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «أخبار الآحاد» باب «ما جاء في إجازة خبر الواحد» حديث (7257)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب طاعة الأمراء في غير معصية» حديث (1840) من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ الله إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْـمَعْرُوفِ»».
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فنُبادر إلى إنكارنا ما وقع من حادث التفجير، وتعاطفنا مع ضحاياه وذويهم، وتقديم خالص عزائنا لهم.
وقد سبقت لنا فتوى مستقلة في حكم ذلك، ووصفنا هذا العمل بأنه جهالة جهلاء، وضلالة عمياء، أيًّا كان مرتكبه مصريًّا كان أم غير مصريٍّ، مسلمًا كان أم غير مسلم.
ولكن الحِداد لا يُشرع إلا للنساء فحسب، فتحد المرأة على زوجها أو على من مات من ذوي قرابتها، ومدته في حق ذوي القربى غير الزوج ثلاثة أيام، ويمتد في حالة إحدادها على زوجها إلى أربعة أشهر وعشرًا، أو إلى أن تضع حملها إن كانت حاملًا.
وقد كان الحداد في زمن الجاهلية يمتد لِسَنة كاملة، كما في الصحيحين من طريق حميد بن نافعٍ، عن زينب بنت أبي سلمة: أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة، قالت زينب: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حربٍ، فدعت أمُّ حبيبة بطِيبٍ فيه صفرةٌ خلوقٌ أو غيره، فدهنت منه جاريةً ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطِّيب من حاجةٍ، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ على مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلا على زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»(1).
قالت زينب: وسمعت أمَّ سلمة تقول: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفتكحلها؟ فقال رسول الله ﷺ: «لَا» مرتين أو ثلاثًا كلَّ ذلك يقول: «لَا». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ في الْـجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْـحَوْلِ».
قال حميدٌ: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حِفشًا(2) ولبست شرَّ ثيابها ولم تمس طيبًا حتى تمر بها سنةٌ(3).
أما ما سوى ذلك من الحداد فهو ممنوع شرعًا، وليس في الشريعة من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا قول صحابي ما يدل على ذلك، فقد مات في حياة الكريم النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم، وبناته الثلاث رقية وأم كلثوم وزينب، وعمه حمزة، وأعيان آخرون في غزوة مؤتة فلم يُحِدَّ عليهم. ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيِّد ولد آدم، والمصيبة بموته أعظم المصائب؛ لأن بموته ينقطع خبر السماء؛ لكونه آخر الأنبياء، ومع هذا لم يحد عليه الصحابة. ثم مات أبو بكر الصديق وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحد عليه. ثم قتل عمر وعثمان وعلي وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم.
وهكذا مات الصحابة جميعًا فلم يحد عليهم التابعون، وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من التابعين ومن بعدهم، كسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسن زين العَابدين، وابنه محمد بن علي، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، والإمام أبي حنيفة وصاحبيه، والإمام مالك بن أنس، والأوزاعي، والثوري، والإمام الشافعي، والإمَام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه… وغيرهم من أئمة العلم والهدى ولم يحد عليهم المسلمون، ولو كان خيرًا لكان السَّلفُ الصالح إليه أسبق، والخير كله في اتباعهم، والشر في مخالفتهم.
أما صاحب العمل فأسأل الله أن يرده إليه ردًّا جميلًا، ونحن نشاركه مشاعر الحزن على من مات من الأبرياء، ولكن التعبير عن هذا الحزن ينبغي أن ينبثق من مشكاة الشريعة، وألا يخرج عن جادَّتها.
فانصح له برفق، فإن أبى وكانت الغرامة محتملة فادفع هذه الغرامة، وأرجو أن يخلفك الله خيرًا منها، وإن كانت غير محتملة فلك حكم المضطرين، ويبوء بالإثم من تولى كبر ذلك. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «إحداد المرأة على غير زوجها» حديث (1280)، ومسلم في كتاب «الطلاق» باب «وجوب الإحداد في عدة الوفاة وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام» حديث (1486).
(2) أي: بيتًا صغيرًا حقيرًا. «شرح النووي على صحيح مسلم» (10/114).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الطلاق» باب «تحد المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا» حديث (5337)، ومسلم في كتاب «الطلاق» باب «وجوب الإحداد في عدة الوفاة» حديث (1489).