ما حكم دفن الأموات في الصناديق الأسمنتية أو دفن التابوت مع الميت- كما في بعض الولايات- التزامًا بالقوانين؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن التابوت صندوقٌ من خشبٍ أو حجرٍ ونحوهما يُوضع فيه الميت، وقد اتفق أهل العلم على كراهةِ الدفن في التابوت إلا من حاجة، وأنه ليس من عادةِ العرب، ولا من شأن أهل الإسلام، بل هو شأن الأعاجم وأهل الكتاب؛ لأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم عملًا ولا قولًا، ولم ينقل عن أصحابه رضي الله عنهم. ولأن فيه تشبُّهًا بالكفار والمترفين من أهل الدنيا، والموت مدعاةٌ للعبرة والموعظة. ولكون الأرض أنشفَ لفضلاته.
قال الشافعي: بلغني أنه قيل لسعد بن أبي وقاص: ألا تتخذ لك شيئًا كأنه الصندوق من الخشب؟ فقال: بل اصنعوا بي كما صنعتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ انصبوا على اللَّبِنَ وأهيلوا عليَّ التراب(1).
فإذا وُجدت حاجة إلى الصندوق ككون تُربة الأرض رخوةً وغير متماسكة، أو كونها نديَّةً مائيةً ضعيفةً، أو كانت منطقةَ المقابر فيها سباع تحفر الأرض، أو كان جسد الميت مهترئًا بالاحتراق، أو مقطعًا، أو أشلاءً بحيث لا يضبطه إلا الصندوق. وهذا مذهب الشافعية(2). أو كان الميت امرأةً لا محرم لها، فذلك أقربُ إلى السَّترِ، والتحرُّز عن مسها عند الوضع في القبر. وهذا مذهب الحنفية(3) والشافعية(4)- فلا حرج، وينبغي أن يُفرش فيه التراب ليصير في معنى اللَّحد، وهو اختيار الحنفية(5).
ومثل ما سبق في الترخُّص إذا ألزمت به القوانين، وكان لا بديل منه، ولا سبيل إلى مخالفتها.
هذا. ولا ينبغي أن يُنقل الميت خصيصًا إلى الشَّرق فرارًا من دفنه في تابوت؛ لأن مفسدةَ النقل وما يترتب عليه من إجراءات طبية أرجحَ من مفسدة دفنِه في تابوت.
جاء في «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق» و«حاشية الشلبي في فقه الحنفية»: «وإذا كانت الأرض رخوةً فلا بأس بالشَّقِّ، واتخاذ التابوت من حجرٍ أو حديدٍ، ويُفرش فيه التراب»(6).
وفي «البناية شرح الهداية»: «قال فخر الإسلام في «الجامع الصغير»: وإن تعذر اللَّحدُ فلا بأس بتابوت يُتَّخذ للميت، لكن السُّنَّة أن يُفرشَ فيه التراب، واللحد أفضلُ عند الأئمة الأربعة من الشق…ويكون التابوتُ من رأس المال إذا كانت الأرضُ رخوةً أو نديَّةً منع كونَ التابوت في غيرها مكروهًا في قول العلماء قاطبة»(7).
وفي «منح الجليل شرح مختصر خليل» في فقه المالكية: «(وسَن) بفتح السين المهملة وشد النون أي صَبَّ (التُّرابِ) على الميت إذا لم يُوجد شيءٌ مما تقدَّم (أولى من) دفنه بـ(التابوت) أي الخشب الذي حُمل عليه إلى القبر؛ لأنه من زي النَّصارى، وقد أُمِرنا بمخالفتهم»(8).
وجاء في «المجموع شرح المهذب» في فقه الشافعية: «يكره أن يُدفن الميت في تابوت إلا إذا كانت رخوةً أو نديَّةً. قالوا: ولا تُنفذ وصيته به إلا في مثل هذا الحال. قالوا: ويكون التابوت من رأس المال، صرح به البغويُّ وغيره، وهذا الذي ذكرناه من كراهة التابوت مذهبُنا ومذهبُ العلماء كافةً، وأظنُّه إجماعًا. قال العبدري رحمه الله: لا أعلم فيه خلافًا، يعني لا خلاف فيه بين المسلمين كافة. والله أعلم»(9).
وجاء في «تحفة المحتاج في شرح المنهاج» و«حواشي الشرواني والعبادي»: «(ويُكره دفنه في تابوت) إجماعًا لأنه بدعةٌ (إلا) لعذر؛ ككون الدفن (في أرض نديَّة) بتخفيف التحتية (أو رخوة) بكسر أوله وفتحه، أو بها سباعٌ تحفر أرضها وإن أحكمت، أو تهرَّى بحيث لا يضبطه إلا التابوتُ، أو كان امرأةً لا محرَمَ لها- لئلَّا يمسها الأجانبُ عند الدفن أو غيره- فلا يُكره للمصلحة، بل لا يبعد وجوبُه في مسألة السباع إن غلب وجودها ومسألة التهري»(10).
وفي «نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج»: «قال في المتوسط: ويظهر أن يلتحق بذلك دفنُه بأرض الرَّمل الدمِثَةِ والبوادي الكثيرةِ الضِّباع وغيرها من السباع النبَّاشة، وكان لا يعصمه منها إلا التابوت»(11).
وجاء في «المغني» لابن قدامة في فقه الحنابلة: «ولا يُستحب الدفنُ في تابوت؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وفيه تشبُّهٌ بأهل الدنيا، والأرض أنشف لفضلاته»(12).
وهذا هو ما انتهى إليه قرار المجمع الفقهي الإسلامي في الدورة: الثامنة في ديسمبر 2004 في موضوع السؤال الوارد، من المشرف العام للشباب الإسلامي، ورئيس وفد الجمعية الإسلامية، في ولاية فكتوريا بأستراليا، عن حكم دفن أموات المسلمين في صندوق خشبي على الطريقة المتَّبعة لدى المسيحيين، قائلًا:
(إن بعض المسلمين هناك لا يزالون يستحسنون ويتبعون هذه الطريقة، رغم أن حكومة الولاية المذكورة سمحت للمسلمين بالدفن على الطريقة الإسلامية، أي في كفنٍ شرعي دون صندوق. وبعد التداول والمناقشة)
فقرر مجلس المجمع الفقهي ما يلي:
1- أن كل عمل أو سلوك يصدر عن مسلم بقصدِ التشبُّه والتقليد لغير المسلمين هو محظورٌ شرعًا، ومنهيٌّ عنه بصريح الأحاديث النبوية.
2- أن الدفنَ في صندوق إذا قُصد به التشبُّه بغير المسلمين كان حرامًا، وإن لم يُقصد به التشبُّه بهم كان مكروهًا ما لم تدع إليه حاجةٌ، فحينئذ لا بأس به).
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ببلاد الحرمين هذا السؤال:
(يوجب قانون هذه البلاد أمريكا أن يُدفن الشخص بصندوق، فما حكم هذا؟)
فأجابت: إن تيسَّر أن يُدفن الميت المسلم بلا تابوت ولا صندوق فهو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه ولا عن أصحابه رضي الله عنهم أنهم دفنوا ميتًا في صندوق، والخير إنما هو في اتباعهم، ولأن في دفن الميت في صندوق تشبُّهًا بالكفار والمترفين من أهل الدنيا، والموت مدعاة للعبرة والموعظة، وإن لم يتيسر دفنُه إلا بذلك فلا حرج؛ لقول الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78](13).
وجاء فيها أيضًا:
(السنة ألَّا يدفن الميت في تابوت مغلقٍ عليه، أو مفتوح؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم عملًا ولا قولًا، ولم ينقل عن أصحابه رضي الله عنهم. والخير كله في الاتباع والشرُّ في الابتداع، ولأن فيه تشبُّهًا بالكفار.
أما نقلُ الميت إلى بلاده لغير ضرورة فغيرُ مشروع، وكونُ الميت يُدفن في تابوت في محلِّ موته ليس مبرِّرًا لنقله ما دام هناك مقبرةٌ للمسلمين يُدفن بها في محلِّ موته وكان دفنه في التابوت. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(14).) والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________
(1) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (3/385) حديث (6406).
(2) جاء في «تحفة المحتاج» (3/194): «(ويكره دفنه في تابوت) إجماعا لأنه بدعة (إلا) لعذر ككون الدفن (في أرض ندية) بتخفيف التحتية (أو رخوة) بكسر أوله وفتحه أو بها سباع تحفر أرضها وإن أحكمت أو تهرى بحيث لا يضبطه إلا التابوت».
(3) جاء في «الاختيار لتعليل المختار» (1/96): «(ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يجعل اللبن على اللحد) ولا يسجى قبر الرجل لأن مبنى أمرهن على الستر حتى استحسنوا التابوت للنساء».
(4) جاء في «تحفة المحتاج» (3/194): «(ويكره دفنه في تابوت) إجماعا لأنه بدعة (إلا) لعذر …أو كان امرأة لا محرم لها فلا يكره للمصلحة بل لا يبعد وجوبه».
(5) جاء في «الدر المختار» (2/256): «(وجاز) ذلك حوله (بأرض رخوة) كالتابوت (ويسجى) أي يغطى (قبرها) ولو خنثى (لا قبره) إلا لعذر كمطر (ويهال التراب عليه، وتكره الزيادة عليه)».
(6) «تبيين الحقائق» (1/245-246).
(7) «البناية» (3/246-248).
(8) «منح الجليل» (1/502).
(9) «المجموع» (5/250).
(10) «تحفة المحتاج» (3/194).
(11) «نهاية المحتاج» (3/30).
(12) «المغني» (2/375-376).
(13) المرجع السابق (8 / 431).
(14 المرجع السابق (8 / 439).