ما حكم الموعظة عند القبر والدعاء للميت؟ أو بعد الصلاة على الميت في المسجد ونحوه؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الموعظةَ قبل الدَّفن مشروعة، فقد ثبت من حديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسلم خرج في جنازةِ رجلٍ من الأنصار، فانتهى إلى القبر ولما يُلْحدْ بعْدُ، فجلس يُحدث أصحابه من حوله عن أحوال كل من المؤمن والفاجر إذا كانا في انقطاع عن الدنيا وإقبال على الآخرة، وذكر لهم من نعيم القبر وعذابه ما شاء الله(1).
كما تشرع الموعظة والتحديث أثناءَ الدفن، فعن عليٍّ رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْـجَنَّةِ وَالنَّارِ وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً». فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ». فقال: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ؛ أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ». ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: من 5: 10](2).
وأخرج الإمام أحمد في «مسنده» عن أبي سعيد الخدري قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا الناس إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ فَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ في يَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ. قَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: صَدَقْتَ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلى النَّارِ فَيَقُولُ: هَذَا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ كَفَرْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ آمَنْتَ فَهَذَا مَنْزِلُكَ. فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْـجَنَّةِ فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ إِلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: اسْكُنْ. وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ. وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُنَافِقًا يَقُولُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا. فَيَقُولُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَلَا اهْتَدَيْتَ. ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْـجَنَّةِ فَيَقُولُ: هَذَا مَنْزِلُكَ لَوْ آمَنْتَ بِرَبِّكَ، فَأَمَّا إِذْ كَفَرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللهَ عز وجل أَبْدَلَكَ بِهِ هَذَا، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ قَمْعَةً بِالْـمِطْرَاقِ يَسْمَعُهَا خَلْقُ الله كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ». فقال بعضُ القوم: يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملكٌ في يده مِطراقٌ إلا هِيلَ عند ذلك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴾ [إبراهيم: 27](3).
وقد ثبت أنه صلى اللهُ عليه وآله وسلم حدثهُم قائمًا على قبر إحدى بناتِه وهي تُدْفن؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: شهدنا بنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ على القبر، فرأيت عينيه تدمعان فقال: «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَـمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟» فقال أبو طلحة: أنا. قال: «فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا». فنزل في قبرها، فقَبَرَها(4).
قال ابن مبارك: قال فليح: أُراه يعني الذَّنب، ومال البخاري إلى أن لفظ المقارفة في الحديث أُريد به ما هو أخص من ذلك وهو الجماع، وعلل ذلك بعضهم بأنه حينئذ يأمن من أن يُذكِّرَه الشيطان بما كان منه تلك الليلة!
كما يشرع الدعاءُ للميت بعد الدفن، فقد ثبت أن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: «اسْتغْفِرُوا لأخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْألُ»(5).
ولا حرج أن يكون الدعاء جماعيًّا، بأن يدعو أحدُ الحضور ويُؤمِّن الناس على دعائه، فقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله: أرى بعضَ الناس يقفون عند القبر بعد دفن الميت ويدعون له، فهل هذا جائز؟ وهل هناك دعاءٌ مشروع يقال بعد الانتهاء من الدفن؟ وهل هو جماعي؟ كأن يدعو شخص ويؤمن الباقون على دعائه؟ أم أن كل شخص يدعو وحده؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: قد دلَّت السنة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم على شرعية الدعاء للميت بعد الدفن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفنِ الميت وقفَ عليه وقال: «اسْتغْفِرُوا لأخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْألُ»، ولا حرج في أن يدعو واحد ويؤمن السامعون، أو يدعو كلُّ واحد بنفسه للميت، والله وليُّ التوفيق(6).
ويتحصَّل من مجموع ما سبق أنه لا حرج في الموعظة أحيانًا قبل الدفن وبعده، حسب الاقتضاء، فقد ثبت هذا وذاك من فعله صلى الله عليه سلم، ولم يكن يُواظب على ذلك ففِعلُه سنةٌ وتركه سنةٌ، ويراعى في ذلك أحوال المشيعين والحضور، وتختلف فيه الفتوى باختلاف الأحوال. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
(1) أخرجه أبو داود في «السنة»، باب «في المسألة في القبر وعذاب القبر» (٤٧٥٣)، وأحمد في «مسنده» (١٨١٨٦). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (٤٧٥٣).
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «القدر» باب {وكان أمر الله قدرا مقدورا} حديث (6605)، ومسلم في كتاب «القدر» باب «كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته» حديث (2647).
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/3) حديث (11013).
(4) أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت» حديث (1285).
(5) أخرجه أبو داود في كتاب «الجنائز» باب «الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف» حديث (3221)، والبيهقي في «الكبرى» (4/ 56) حديث (6856) من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذكره النووي في «خلاصة الأحكام» (2/ 1028) وقال: «رواه أبو داود بإسناد حسن»، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» حديث (133).
(6) انتهى من «فتاوى الشيخ ابن باز» (13/ 204).