ما حكم الجلوس للعزاء، واستقبال المعزين وعمارة الوقت بقراءة شيء من القرآن، أو إلقاء بعض المواعظ؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن التعزيةَ هي مواساةُ الـمُصاب، وتصبيرُه، وتسليتُه، وتقويتُه على ما أصابه.
وأصلُ التعزية مشروعٌ باتفاق أهل العلم، والأصل في ذلك حديثُ أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ عَزَّى أَخَاهُ الْـمُؤْمِنَ فِي مُصِيبَتِهِ كَسَاهُ اللهُ حُلَّةً خَضْرَاءَ يُحبَرُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قيل: يا رسول الله ما يحبر؟ قال: «يُغبَط»(1).
والنياحة على الميت محرَّمةٌ باتفاق أهل العلم، وقد صحَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «خِلَالٌ مِنْ خِلَالِ الْـجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ»(2).
وموردُ السؤال حولَ مجالس العزاء، أي الجلوس للتعزية، هل هي من التعزية المشروعة؟ أم من النياحة المحرمة؟
والجمهور(3) على منع هذه المجالس واعتبرها من النياحة؛ لقول أبي أيوب رضي الله عنه: كنا نَعُدُّ الجلوسَ إلى أهل الميت وصُنعَهم الطعام من النياحة.
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم القصد إلى التعزية والذهاب إلى أهل الميت في بيتهم؟
فأجاب: «هذا ليس له أصلٌ من السنة، ولكن إذا كان الإنسان قريبًا لأهل الميت ويخشى أن يكون من القطيعة أن لا يذهب إليهم- فلا حرج أن يذهب، ولكن بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماعُ في البيت، وتلقِّي المعزين؛ لأن هذا عده بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومن صادفهم في السوق أو في المسجد عزاهم، فهاهنا أمران:
الأول: الذهاب إلى أهل الميت، وهذا ليس بمشروع، اللهم إلا كما قلت: إذا كان من الأقارب ويَخشى أن يكون تركُ ذلك قطيعةً.
الثاني: الجلوسُ لاستقبال المعزِّين، وهذا لا أصلَ له، بل عدَّه بعض السلف من النياحة».
وخالف في ذلك بعضُ أهل العلم فقال: إن خلت من المنكرات كانت من التعزية المشروعة، وإن شابتها المنكرات كانت من النياحة المحرمة. وهو اختيار الشيخ ابن باز رحمه الله، وبعض أهل العلم.
وتحقيق القول في ذلك أن النياحةَ التي أشار إليها أبو أيوب هي مجالس العزاء التي تجمع بين أمرين: الجلوس، وصنع الطعام من قبل أهل الميت، تفاخرًا ومباهاة، وتنافسًا مع الآخرين، فلا ينبغي لأحد أن يجعل شيئًا من أعماله رئاءَ الناس، فإنها تخذله أحوج ما يكون إليها، ولا أن يشق على أهل الميت بحملهم على إعداد طعام للمعزين، اللهم إلا إذا قدموا من مكان بعيد، وكان لهم حكم الضيوف وحق الضيافة، بل ينبغي على المحيطين بهم أن يكفوهم هذه المؤنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ»(4). وفيه دليل على شرعية إيناس أهل الميت بصنع الطعام لهم لما هم فيه من الشغل بالموت.
أما مجرد الاجتماع للعزاء بدون ذلك فهذا هو موضع النظر، وهو لا يعني النياحةَ في جميع صوره قطعًا، فقد جاء في «صحيح البخاري» رحمه الله، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها كانت إذا مات الميْتُ من أهلِها فاجتمع لذلك النساءُ ثم تفرقْن- إلا أهلها وخاصتها- أمرت ببُرْمةٍ من تلْبينةٍ فطُبِخت، ثم صُنِع ثريدٌ فصُبتِ التلْبينةُ عليها، ثم قالت: كلن منها، فإِني سمعتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْـمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْـحُزْنِ»(5).
أفلا يدلُّ ذلك على أن الاجتماع والجلوس إذا لم يصحبه منكرات فإنه لا بأس به؟! إذ كيف يكون الاجتماع لمواساة المصاب، وإيناسه، والتخفيف عنه، وتذكيره بثواب الصبر والاحتساب في لحظات هو أحوج ما يكون إليها من النياحة التي هي كفر بأصحابها؟!
وإن تعجب فعجب قول من منع من ذلك بحجَّة أنَّه يجدد الأحزان، وعكس ذلك هو الصحيح؛ لأن المصاب في أيام مصابه الأولى في حاجة إلى من يُطيل مكثه معه لمواساته وتخفيف لوعته.
وعلى هذا فإنه إن تعيَّن هذا الاجتماع سبيلًا لتحقيق التعزية المشروعة، في ظل اتساع البلدان، وتعقد ظروف الحياة ومشاغلها، وتفرق الناس في أعمالهم، وندرة اجتماعاتهم وملاقاتهم، أو كان الميت من ذوي الهيئات الذين يتوافد الناس للتعزية في موتهم، لاتساع شبكة علاقاتهم الاجتماعية، ولما خلفوه من آثار جليلة، وخلا من تكلف أهل الميت صناعة الطعام للمجتمعين- فلا حرج في ذلك؛ لما تمهَّد من أن للوسائل حكمَ المقاصد حِلًّا وحرمةً.
ولا حرج- والحال كذلك- في تقديم ما جرت عادة الناس على تقديمه للزائر من المرطبات أو القهوة والشاي ونحوه.
وإن حضر بعضُ أهل العلم وأراد أن يعظ الناس موعظة قصيرةً- فلا حرج، ما لم يُتَّخذ ذلك عادة وسنة مطَّردة.
وهذا الذي انتهينا إليه هو الذي أفتى به الشيخ ابن باز رحمه الله، فقد سُئل رحمه الله: ما رأي سماحتكم فيمن يجلس بالمنزل لاستقبال المعزين، مع العلم أن كثيرًا من المعزين لا يتمكنون من القيام بالعزاء إلا في المنزل؟
فأجاب: لا أعلم بأسًا في حق من نزلت به مصيبة بموت قريبه، أو زوجته، ونحو ذلك أن يستقبل المعزين في بيته في الوقت المناسب؛ لأن التعزية سُنَّةٌ، واستقباله المعزين مما يعينهم على أداء السنة؛ وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي، أو الطيب، فكل ذلك حسنٌ(6).
وسئل رحمه الله: يقوم بعض المعزين بإخراج أهل الميت بعيدًا عن القبور، ووضعهم في صف حتى تتم معرفتهم وتعزيتهم بنظامٍ، ولا تُهان القبور، ما حكم ذلك؟
فأجاب: «لا أعلم في هذا بأسًا؛ لما فيه من التيسير على الحاضرين لتعزيتهم» من ضمن أسئلة مقدمة لسماحته من الجمعية الخيرية بشقراء. والله تعالى أعلى وأعلم.
___________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (7/397)، وابن عساكر في «تاريخ مدينة دمشق» (52/218)، وحسنه الألباني في «أحكام الجنائز» ص163.
(2) أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «القسامة في الجاهلية» حديث (3850) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) جاء في «البناية شرح الهداية» (3/260) من كتب الحنفية: « لتعزية لصاحب المصيبة حسن فلا بأس بأن يجلسوا في البيت أو المسجد والناس يأتونهم ويعزونهم، ويكره الجلوس على باب الدار، وما يصنع في بلادهم العجم من فرش البسط، والقيام على قوارع الطرق من أقبح القبائح».
وجاء في «روضة الطالبين وعمدة المفتين» (2/144) من كتب الشافعية: « التعزية: هي سنة، ويكره الجلوس لها ».
وجاء في «شرح منتهى الإرادات» (1/382) من كتب الحنابلة: « (وكره تكرارها) أي التعزية نصا فلا يعزي عند القبر من عزى قبل وله الأخذ بيد من يعزيه وإن رأى الرجل قد شق ثوبه على المصيبة عزاه ولم يترك حقا لباطل وإن نهاه فحسن (و) كره (جلوس لها) أي التعزية بأن يجلس المصاب بمكان ليعزى أو يجلس المعزي عند المصاب بعدها لأنه استدامة للحزن».
(4) أخرجه أبو داود في كتاب «الجنائز» باب «صنعة الطعام لأهل الميت» حديث (3132)، والترمذي في كتاب «الجنائز» باب «ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت» حديث (998)، وابن ماجه في كتاب «ما جاء في الجنائز» باب «ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت» حديث (1610). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
(5) أخرجه البخاري في كتاب «الأطعمة» باب «التلبينة» حديث (5417).
(6) نشرت في (مجلة الدعوة) العدد (1513) في 25/5/1416 هـ.