أحق الناس بدفن المرأة

من أحق الناس بدفنِ المرأة؟ زوجُها ومحارمها؟ أم من لم يُقَارِف؟ أم الأَخْبَرُ بالدفن؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد ذكر ابن قدامة في كتابه «المغني»: ((لا خلاف بين أهل العلم في أن أولى الناس بإدخالِ المرأة قبرَها محرَمُها، وهو من كان يحل له النظر إليها في حياتها ولها السفرُ معه، وقد روى الخلَّالُ بإسناده عن عمر رضي الله عنه: أنه قام عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تُوفيت زينبُ بنت جحش فقال: ألا إني أرسلت إلى النسوة من يدخلها قبرَها؟ فأرسلن من كان يحلُّ له الدخول عليها في حياتها، فرأيتُ أن قد صدقن(1). ولما توفيت امرأة عمر قال لأهلها: أنتُم أحقُّ بها. ولأن محرَمَها أولى الناس بولايتها في الحياة، فكذلك بعد الموت. وظاهر كلام أحمد أن الأقارب يقدَّمُون على الزوج. قال الخلال: استقامت الرواية عن أبي عبد الله أنه إذا حضر الأولياء والزوج، فالأولياء أحبُّ إليه، فإن لم يكن الأولياء فالزوجُ أحقُّ من الغريب؛ لما ذكرنا من خبرِ عُمَر. ولأن الزوج قد زالت زوجيتُه بموتِها، والقرابةُ باقيةٌ. وقال القاضي: الزوج أحقُّ من الأولياء، لأن أبا بكر أدخل امرأتَه قبرها دون أقاربها، ولأنه أحقُّ بغسلها منهم، فكان أولى بإدخالها قبرَها، كمحلِّ الوفاق، وأيهما قدم فالآخر بعده))(2).
وقد روى البخاريُّ رحمه الله في «صحيحه» عن أنس رضي الله عنه قال: شهدنا بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر. قال: فرأيت عينيه تدمعان. قال: فقال: «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَـمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟» فقال أبو طلحة: أنا. قال: «فَانْزِلْ». قال: فنزل في قبرها(3).
وهو محمولٌ على تفضيلِ من لم يُقارف عند الاستواء في بقية الصفات، فقد استدلَّ العلماءُ بهذا الحديث على أنه إذا استوَى الرجالُ الأجانب في الصفات التي تُقدمهم لدفن الميت من السنِّ والصلاح والفقه يقدَّم الذي بَعُد عهدُه بالجِمَاع.
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله: «يؤخذ من الخبر أن الأجانب- المستوين في الصفات- يقدَّمُ منهم من بَعُدَ عهدُه بالجماع؛ لأنه أبعدَ عن مذكِّر يحصل له لو ماس المرأة»(4).
والحكمةُ من ذلك أن البعيدَ عن الجماع أبعدُ عن أن يذكِّرَه الشيطانُ بما كان منه تِلك الليلة، وأبعدُ عن ملاذ الدنيا التي لا تُناسب حالَ الدفن والقبر، كما قال الكرماني رحمه الله: «لتكون نفسُه مطمئنةً ساكنةً كالناسية للشهوة»(5).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «العلماء فيما أعلم لم يقُل أحدٌ منهم: إن المرأة يحرم أن يدخلها في قبرها من جامَع تلك الليلة، لكنهم قالوا: من بَعُدَ عهدُه بالجماع فهو أولى. وبعض الناس يظنون أنه لا يُنزل المرأة في قبرها إلا من كان من محارمها، وهذا غيرُ صحيح، ينزلها من كان أعرفَ بطريقة الدفن، سواء كان من محارمها أو من غير محارمها»(6). انتهى.
وقال الشوكاني رحمه الله: «والحديث يدلُّ على أنه يقدَّم الرجال الأجانبُ الذين بَعُدَ عهدُهم بالملاذ في المواراةِ على الأقارب الذين قرُبَ عهدهم بذلك؛ كالأب والزوج»(7). انتهى.
وقد جعل الشيخُ الألباني عدمَ المقارفة شرطًا في تقديم الزوج في دفن المرأة؛ فقال رحمه الله في «أحكام الجنائز»: «يجوز لزوج أن يتولى بنفسه دفنَ زوجته لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بُدِئ فيه, فقلت: وارأساه…(8) الحديث…
ثم قال رحمه الله:
لكن ذلك مشروطٌ بما إذا كان لم يطأ تلك الليلة؛ وإلا لم يشرع له دفنُها وكان غيره هو الأولى بدفنها ولو أجنبيًّا بالشرط المذكور؛ لحديث أنس رضي الله عنه قال: شهدنا بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر. قال: فرأيت عينيه تدمعان. قال: فقال: «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَـمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟» فقال أبو طلحة: أنا. قال: «فَانْزِلْ». قال: فنزل في قبرها. وفي رواية عنه: أن رقية رضي الله عنها لما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلْ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ أَهْلَهُ». فلم يدخل عثمان رضي الله عنه عندَ القبر(9). وقد قدمنا أن هذا الحديث محمولٌ عند أهل العلم على تفضيلِ من لم يُقارف عند الاستواء في بقية الصفات.
وقد استشكل أهلُ العلم في هذا الحديثِ وجهَ تقديم أبي طلحة وهو أجنبيٌّ عن المتوفاة، على عثمان زوج أم كلثوم رضي الله عنها، فقالوا في الإجابة عن هذا الإشكال:
أولًا: يقول ابن حجر رحمه الله: «يحتمل أن عثمان لفَرْطِ الحزن والأسف لم يثق من نفسه بإِحْكَام الدَّفن فأَذِنَ، أو أنه صلى الله عليه وسلم رأى عليه آثارَ العجز عن ذلك، فقدَّم أبا طلحة من غير إذنِه، وخصَّه لكونه لم يقارف تلك الليلة»(10).
ثانيًا: قد يكون لم يحضر من محارمها أحدٌ، ولا حتى زوجُها عثمان رضي الله عنه؛ لانشغالهم بأمورٍ أعظم. ذكره الطحاوي في «شرح مشكل الآثار»(11).
ثالثًا: وقيل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرادَ معاتبة عثمان رضي الله عنه على ما وقع منه تلك الليلة مع جاريةٍ له وانشغاله عن زوجتِه، كما قال ابنُ حجر رحمه الله: «حُكي عن ابن حبيب أن السرَّ في إيثار أبي طلحة على عثمان؛ أن عثمان كان قد جامع بعضَ جواريه في تلك الليلة، فتلطف صلى الله عليه وسلم في منعه من النزول في قبر زوجته بغير تصريح»(12).
ويُعتَذَر لعثمان رضي الله عنه في ذلك أنه طال مرضُها عليه، ولم يكن يعلم أنها تتوفى في تلك الليلة.
وعلى كل حال فالمسألة من موارد الاجتهاد، والعبرة في هذا ليست بالزوجية او المحرمية بل بالدراية بالدفن، والأولياء مع هذا الشرط أولى من غيرهم، ومن لم يقارف منهم في الليلة السابقة على الدفن كان أولى. وموارد الاجتهاد لا ينبغي أن يُضَيَّق فيها على المخالف. والله تعالى أعلى وأعلم.

__________________
(1) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (4/37) حديث (6740).
(2) «المغني» (2/189).
(3) أخرجه البخاري في كتاب «الجنائز» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت» حديث (1285).
(4) «تحفة المحتاج» (3/169-170).
(5) «عمدة القاري» (8/ 76).
(6) «لقاء الباب المفتوح» لقاء رقم (77).
(7) «نيل الأوطار» (4/105-106).
(8) أخرجه البخاري في كتاب «المرضى» باب «قول المريض: إني وجع. أو وا رأساه. أو اشتد بي الوجع. وقول أيوب عليه السلام: إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين» حديث (5666).
(9) أخرجه أحمد في «مسنده» (3/229) حديث (13422)، والحاكم في «مستدركه» (4/51) حديث (6852)، وقال الحاكم: «حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه».
(10) «تحفة المحتاج» (3/169-170).
(11) «شرح مشكل الآثار» (6/237).
(12) «فتح الباري» (3/159).

تاريخ النشر : 29 سبتمبر, 2025
التصنيفات الموضوعية:   03 الجنائز, 12 فتاوى المرأة المسلمة

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend