حول ضوابط التكفير عند أهل السنة
ما هي ضوابط التكفير عند أهل السنة؟
تشيعُ موجاتٌ من التكفير في ظِلِّ تردِّي الأحوال واستطالة العلمانيين ومن شايعهم على دماء أهل الدين وأعراضهم،
وفي هذه الأجواء يجنح كثيرٌ من الناس إلى التكفير كردَّة فعل لهذه المظالم، فكيف ضبطَ أهلُ السنة هذا الأمر الجليل؟
أفتونا مأجورين، وجزاكم الله كل خير ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن بابَ التكفير بابٌ عظمت فيه الفتنةُ والمحنة، وكثُرَ فيه الافتراقُ، وتشتت فيه الأهواء والآراء، فهو بحقٍّ
مزلةٌ أقدام ومدحضة أفهام.
خطورة التكفير وجسامة النتائج التي تترتب عليه:
وأول ما نُنبه عليه في هذا الأمر خطورةُ أمر التكفير، لخطورة النتائج التي تترتب عليه من استحلال الدماء والأموال والأعراض،
ومنع التوارث، وفسخ النكاح وغيرها، وكون تكفير المسلم كقتلِه، وارتداد الحكم بالكفر على قائله إذا لم يكن المرميُّ به يستحقه.
ففي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ:
يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ»(1). أي: إذا قلتَ لإنسان: يا كافر. فإنه يبوء بها إما أنت أو هو،
فإن كان ليس كما تقول رجع ذلك الإثم عليك.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوَّ الله.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ»(2).
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ
كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْـمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»(3).
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في «إحكام الأحكام»: «وهذا وعيدٌ عظيمٌ لمن كفَّر أحدًا من المسلمين وليس كذلك،
وهي ورطة عظيمة، وقع فيها خلقٌ كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السُّنَّة وأهل الحديث لمَّا اختلفوا في العقائد
فغلَّظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم، وخرق حجاب الهيبة في ذلك جماعة من الحشوية،
وهذا الوعيد لاحق بهم إذا لم يكن خصومهم كذلك»(4). اهـ.
وفيما يلي جملةٌ من ضوابط التكفير التي أرجو أن ينفعَ اللهُ بها في هذا الأمر الخطير:
أولًا: التكفيرُ حقٌّ لله، فلا يُكَفَّر إلا من كفَّره الله ورسوله:
التكفير حكمٌ شرعيٌّ مردُّه إلى الله ورسوله، فكما أن مردَّ التحليل والتحريم إلى الله ورسوله، فكذلك التكفيرُ ولا فَرق،
فمردُّ الأمر في باب التكفير ليس إلى أهواء الناس وآرائهم، بل إلى ما جاء به الشرعُ المطهرُ قرآنًا وسنةً صحيحة،
والعقل قد يعلم به صوابُ القول وخطؤه، ولكن لا يعلم به وحدَه الكفرُ، فليس كل ما كان خطأً في العقل يكون كفرًا في الشرع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الكفرُ والفسقُ أحكامٌ شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقلُّ بها العقلُ،
فالكافر من جعله الله ورسوله كافرًا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقًا،
كما أنَّ المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنًا مسلمًا، والعدل من جعله الله ورسوله عدلًا،
والمعصوم من جعله الله ورسوله معصومَ الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنَّه سعيدٌ في الآخرة،
والشقيُّ فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنَّه شقي فيها، والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله،
والحلال ما أحلَّه الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع؛
وإذا كان كذلك: فكونُ الرجل مؤمنًا وكافرًا وعدلًا وفاسقًا هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية»(5).
ولهذا فإنه يجبُ الرجوعُ في مسمَّيات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله؛ فإنه شافٍ كافٍ،
وإن العدول عن هذا المنهج هو أول الطريق إلى الزيغ والابتداع.
يقول ابن القيم رحمه الله:
الكُفرُ حَقُّ اللهِ ثمَّ رَسُولِهِ *** بِالشَّرعِ يَثبُتُ لاَ بِقَولِ فَلاَنِ
مَن كَانَ رَبُّ العَالمِينَ وَعبدُهُ *** قَد كَفَّرَاهُ فَذَاك ذو الكُفرَانِ(6)
ثانيًا: الكفرُ نقيض الإيمان فتتوقف معرفتُه على معرفة حقيقة الإيمان:
لما كان الكفرُ نقيضَ الإيمان، فإنه يلزم لمعرفته معرفةُ حقيقة الإيمان، والإيمان حقيقةٌ مركبة من القول والعمل،
والمقصود بالقول هنا: قولُ القلب؛ وهو تصديقُ القلب وإقرارُه ومعرفته، وقول اللسان؛ وهو النطق بالشهادتين،
والإقرار بلوازمهما. والمقصود بالعمل: عملُ القلب؛ وهو قبوله وانقياده، ومحبته وإخلاصه، وعملُ الجوارح؛
وهو سائر ما افترض الله على عباده من أعمال الجوارح. قال البخاري رحمه الله: «لقيت أكثرَ من ألف رجل من العلماء بالأمصار،
فما رأيت أن أحدًا منهم يختلفُ في أن الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص»(7).
وقد صار هذا المعنى من المعلوم من مقالات السلف بالضرورة.
ثالثًا: أصلُ الإيمان تصديقُ الخبر والانقياد للأمر:
للإيمان أصلٌ لا يثبُت عقدُ الإسلام إلا باستيفائه، وهو يقوم على ركنين: تصديق الخبر، والانقياد للشرع.
فمن لم يحصل في قلبه التصديقُ والانقياد فليس بمؤمن؛ ولهذا لما جاء نفرٌ من اليهود إلى النبي ﷺ، وقالوا:
نشهد إنك لرسول لم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي:
نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: «فلم لا تتبعوني؟!»، قالوا: نخاف من يهود(8).
فعُلم أن مجرَّد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمِّن للالتزام والانقياد.
يقول ابن أبي العز في «شرحه على الطحاوية»: «والكفر لا يختصُّ بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك،
بل أعاديك وأُبغضك وأُخالفك، لكان كفرًا أعظمَ. فعُلم أن الإيمان ليس التصديقَ فقط، ولا الكفرُ التكذيبَ فقط،
بل إذا كان الكفرُ يكون تكذيبًا، ويكون مخالفةً ومعاداةً بلا تكذيب، فكذلك الإيمانُ؛ يكون تصديقًا وموافقةً وموالاةً وانقيادًا،
ولا يكفي مجرَّد التصديق»(9).
رابعًا: زيادة الإيمان ونقصه، وتفاضل أهله:
ولأن الإيمان حقيقةٌ مركبة من القول والعمل فإنه يزيد وينقص، ولا يصحُّ ما جنحَ إليه الخوارجُ والمرجئة من كونه معنًى واحدًا
لا يتجزأ ولا يتبعض، إذا ذهب بعضه ذهب كله، ومن اقتصر في تعريف الإيمان على التصديق من أهل السنة، بل ومن عامة
المرجئة- كان مقصوده التصديقَ الانقياديَّ المستلزم لقبول الأحكام والتزام الشرائع. ولقد استفاضت النصوص التي تدلُّ
بمنطوقها ومفهومها على ذلك، وهذا هو المأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجماهير السلف.
قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} [التوبة: 124].
ومن السنة: «مَنْ رَأى مِنْكُمْ منْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ»(10).
وفي أحاديث الشفاعة: «فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ»(11).
وفي رواية أخرى: «فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْـمَحَامِدِ،
ثمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا محَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقلْ يسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تعْطَ، وَاشْفَعْ تشَفَّعْ، فَأَقُولُك يَا رَبِّ أمَّتِي أمَّتِي.
فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْـمَحَامِدِ،
ثمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا محَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقلْ يسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تعْطَ، وَاشْفَعْ تشَفَّعْ. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أمَّتِي أمَّتِي. فَيَقُولُ:
انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ»(12).
وأما المأثورُ في ذلك عن أهل العلم؛ فهو أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصى.
خامسًا: انتقاض الإيمان بالردة:
فالإيمان ينتقض بالرِّدة كما ينتقض الوضوءُ بالحدث، والردَّة كما تكون بمفارقة ملة الإسلام بالكلية إلى ملة أخرى،
أو إلى الإلحاد البحت، تكون أيضًا بعدم الإقرار بشيء مما أنـزل الله؛ تكذيبًا أو ردًّا، وأبواب الردة في كتب الفقه حافلةٌ
بإيراد الأمثلة على ذلك.
سادسًا: الكفرُ كفران: أحدهما ينقل عن الملة، والآخر لا ينقل عنها:
فالكفر الوارد في النصوص قسمان:
أحدهما: ينقل عن الملة، سواء سُمِّي كفرًا أكبر أو كفرًا حقيقيًّا، وضابطه عدمُ الإقرار بشيء مما أنـزل الله تكذيبًا أو ردًّا.
والثاني: كفرٌ لا ينقل عن الملة، سواء أسمي كفرًا أصغر أم كفرًا مجازيًّا، وهو الوارد في نصوص الوعيد التي اتفق أهلُ العلم
على أنها لا تخرج من الإيمان إلا بالاستحلال؛ كقوله ﷺ: «خِلَالٌ مِنْ خِلَالِ الْـجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ»(13).
سابعًا: عدمُ تكفير أصحاب الكبائر إلا بالاستحلال:
فقد اتفق أهلُ السُّنَّة والجماعة على أن المعاصيَ من أمور الجاهلية، ولا يكَفَّرُ فاعلُها بارتكابها؛ إلا بالاستحلال،
وأن أصحاب الكبائر في مشيئة الله؛ إن شاء الله عذبهم، وإن شاء غفَر لهم، لا نشهد عليهم في الدنيا بكفرٍ كما يقول الخوارج،
ولا يحكم بخلودهم في النار كما يجزم بذلك الخوارج والمعتزلة.
ومن يمت ولم يتب من ذنبه *** فأمره مفوض لربه
والاستحلال تارةً يؤول إلى كفرِ التكذيب؛ إذا كان إنكارًا للحكم الشرعي وتكذيبًا له، وتارة يؤول إلى كفر الرَّدِّ؛
إذا كان امتناعًا عن قبول الحكم الشرعي أو التزامه، فقد سبق أن أصل الإيمان تصديقُ الخبر والانقيادُ للأمر، فكل ما آل إلى
التكذيب أو الردِّ، فإنه يعود على أصل الإيمان بالنقض.
ووجهُ عدمِ التكفير بالمعاصي تفريقُ الشريعة بين الشرك والكفر من ناحية، وبقية الذنوب من ناحية أخرى؛
وذلك في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا
(48)} [النساء: 48]؛ ففرَّق بين الشرك وبين ما دونه من المعاصي، وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}
[الحجرات: 7]؛ ففرقت بين الكفر من ناحية، وبين الفسوق والعصيان من ناحية أخرى.
وكذلك تفريقها بين العقوبة المقرَّرَة للكفر والردَّة، والعقوبات المقرَّرَة لسائر المعاصي، فجعلت للكفر حدًّا واحدًا هو القتل
«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»(14)، وفاوتت بين عقوبات المعاصي؛ من القطعِ إلى الجلد إلى الرجم إلى القتل إلى التعزير،
بحسب نوعها، ولو كان الجميعُ في مرتبةٍ واحدةٍ، وكانت المعاصي كلها من قبيل الردَّة لانطبق عليها جميعًا حدُّ الردة بلا استثناء.
وكذلك لدلالة أحاديث الشفاعة؛ وفيها شفاعته ﷺ لأهل الكبائر من أمته، ولو كان هؤلاء كفارًا لكانوا مخلدين في نار جهنم،
ولم تنفعهم شفاعة الشافعين.
ثامنًا: المعاصي بريد الكفر، ويُخشى على أصحابها من سوء الخاتمة:
فليس معنى الامتناع عن تكفير أصحاب المعاصي التهوينَ من شأن المعصية، أو الإغراءَ بها، فقد قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63]، وقال ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ
نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ:
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]»(15).
تاسعًا: ثبوتُ عقد الإسلام لكل من أقرَّ بالشهادتين حتى يتلبَّس بناقضٍ جليٍّ من نواقض الإسلام:
والإقرار المقصود في هذا المقام، هو الإقرار الالتزاميُّ الذي يقصد به الإجابة إلى الإيمان، والدخول في الإسلام، وليس مجرَّدَ
الإقرار الخبري الذي لا يقصد به سوى الإخبار المجرد عن قول القلب، كما يقع في كثير من الأحيان من بعض المستشرقين أو
بعض المشتغلين بالعلوم الكونية، عندما يرون إعجاز القرآن الكريم فينطق بعضُهم بهذه الكلمة، مع بقائه على دين قومه؛
ولهذا لم ينفع اليهودَ الذين جاءوا إلى النبي ﷺ هذا الإقرارُ الخبريُّ عندما قالوا له: نشهد إنك لرسول، مع امتناعهم عن اتباعِه
مخافةَ قومهم؛ لأن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان، حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد.
الأصل في مَن تلبَّس بعمل من أعمال الكفر أن يكون مُتَّهَمًا بالردة، ولا تثبت هذه التهمة في حقه، وتتحول إلى إدانة، إلا عند
تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه.
عاشرًا: وجوب التحقق إذا حدث شكٌّ في دلالة الشهادتين على الإقرار المجمل بالإسلام:
فإن حدث شكٌّ في دلالة الشهادتين على الإجابة إلى الإيمان، وإرادة الدخول في الإسلام، وجَبَ التحقُّق،
فيكف عن قائلهما، ويتثبَّت من أمره، حتى يُستوفى منه ما يدلُّ على إقراره المجمل بالإسلام، وبراءته المجملة من كل دين
يخالفه. قال البغويُّ فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر: «الكافر إذا كان وثنيًّا أو ثنويًّا لا يقرُّ بالوحدانية، فإذا قال:
لا إله إلا الله. حكِمَ بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام، ويَبرأ من كلِّ دين خالف دين الإسلام،
وأمَّا من كان مُقرًّا بالوحدانية منكرًا للنبوة، فإنه لا يُحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله. فإن كان يعتقد أن الرسالة
المحمدية إلى العرب خاصةً، فلابد أن يقول: إلى جميع الخلق، فإن كان كفرُه بجحودِ واجبٍ أو استباحةِ محرَّمٍ فيحتاج
أن يرجع عمَّا اعتقده»(16).
الحادي عشر: القاعدة السابعة: التفريق بين الإطلاق والتعيين في باب التكفير:
تكفير المطلَق لا يستلزم تكفيرَ المعين، إلا إذا وُجدت الشروط، وانتفت الموانع، فليس كلُّ من نطق بالكفر أو فعَلَه يُعدُّ
بالضرورة كافرًا، فقد يكون جاهلًا أو متأولًا؛ ذلك أن الفعل أو القول قد يكون كفرًا، ويُطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة،
أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا، فهو كافر، أو من فعل ذلك، فهو كافر. لكن الشخص المعيَّن الذي قال ذلك القولَ
أو فعل ذلك الفعل لا يُحكم بكفره حتى تقومَ عليه الحُجَّة التي يكفر تاركها.
وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار،
لجواز أن لا يلحقه، لفوات شرط أو لثبوت مانع.
الثاني عشر: ضوابط إجراء الحكم على المعين:
لا يتسنى إجراء الحكم بالتكفير على معيَّن من الناس حتى تتحقق شرطُ هذا الحكم وتنتفي موانعه،
ومن الموانع عارضُ الخطأ أو الجهل أو التأويل أو الإكراه، فقد يأتي الفعلَ المكَفِّر مخطئًا جاهلًا بكونه مكفِّرًا،
أو متأولًا له على نحوٍ يخرج به عن المناط المكفر، أو يأتي به تحت عارضٍ من إكراه، وفي كلِّ هذه الأحوال لا يجوز تكفيره.
فالخطأ: ما ليس للإنسان فيه قصد. كما إذا رمى شخصًا ظنه صيدًا، أو حربيًّا فإذا هو مسلم، ومن ذلك سَبْق اللسان ونحوه،
قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]. والعبرة في الخطأ- كمانعٍ من موانع التكفير- أن المكلف
وإن قصد إتيانَ الفعل المُكَفِّر إلَّا أنه لم يقصد به المناطَ المكفِّر لخطأ في الفعل أو في القصد.
والجهل: ويكون مانعًا إذا كان مما لا يتمَكَّن المكلف من دفعه أو إزالته. كحديث العهد بالإسلام، أو من نشأ في باديةٍ،
أو عاش تحت تأثير وسائل إعلام آسرةٍ ساحرةٍ آخذةٍ بالقلوب والألباب.
والمراد هنا هو عُذرُ من لم يتمكن من العلم، فإن العلماء متفقون على عدم عذر الـمُعْرِض إن تمكَّن من العلم.
قال القرافي في «الفروق»: «لأنَّ القاعدة الشرعية دلَّت على أن كُلَّ جهل يمكن المكلف رفعه لا يكون حجةً للجاهل
لا سيما مع طول الزمان واستمرار الأيام فإنَّ الذي لا يُعلم اليوم يُعلم في غدٍ، ولا يلزم من تأخير ما يتوقف على هذا العلم
فسادٌ فلا يكون عذرًا»(17). اهـ.
والأصل عند الاضطراب في تكييف نوع الجهل استصحابُ العذر به؛ لأن ما ثبت بيقين لا يزول بالشك.
والتأويل: هو وضع الدليل الشرعي في غير موضعه باجتهادٍ أو شُبهةٍ تنشأ عن عدم فَهم دلالة النص،
أو فهِمَهُ فهمًا باطلًا ظنَّهُ حقًّا, أو ظنَّ غيرَ الدليل دليلًا. فيقدم المكلف على الفعل الكُفري وهو لا يراه كفرًا، فينتفي شرطُ العمد.
والتأويل المانع من التكفير هو التأويل السائغ في الجملة، أي ما كان له مُسوِّغٌ في الشرع أو في اللغة،
كتأويل المتكلمين لليدِ بالقدرة. وأما التأويل غير السائغ: فهو ما ليس له مُسوِّغٌ في الشرع ولا في اللغة،
ويكون صادرًا عن محض رأي وهوًى فلا يصلح عذرًا. ومن أمثلته: تأويل الرافضة لقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}
[المائدة: 64] بالحسن والحسين. وهو تأويل فاسد مردودٌ لا يمنع عنهم حكمًا ولا يرفع عنهم تبعة.
قال ابن الوزير في كتابه «إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات»: «وكذلك لا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلومَ بالضرورة
للجميع وتستَّر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويلُه, كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع
والمعادِ الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار»(18). اهـ.
فمن أقرَّ في الجملة بالتوحيد والرسالة ثمَّ تلبس ببعض طوارق الشرك أو الكفر جهلًا أو سوء تأويل فلا ينتقض بذلك أصلُ إقراره،
إلا إذا أصرَّ على ذلك بعد البلاغ وإقامة الحجة.
ولهذا لا يُصار إلى تكفير عوام المسلمين بما تلبسوا به من كثيرٍ من ضلالات القبوريين أو بما راجَ على بعضهم من
شبهات العلمانيين، إلا بعد البلاغ وإزالة الشبهة.
والإكراه: وهو الإلجاء إلى فعل الشيء قهرًا، أو إلزامُ الغيرِ بما لا يريده، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أكْرِهَ وَقَلْبُهُ مطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ }
[النحل: 106]. والأخذ به رخصة، كفعل عمار بن ياسر رضي الله عنه عندما أخذه المشركون فلم يتركوه حتى سبَّ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم وذكَر آلهتهم بخيرٍ ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«مَا وَرَاءَكَ؟», قال: شرٌّ يا رسول الله. ما تُركتُ حتى نلتُ منك وذكرتُ آلهتهم بخيرٍ. قال: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قال:
مطمئن بالإيمان. قال: «إنْ عَادُوا فَعُدْ». قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(19).
وعدم الأخذ به عزيمة: كفعل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، وفيه: أن طاغيةَ الروم فتنه على النار ليتنصر ولكنه
استعصم وأبى، ثم بكى لأنه ليس له إلا نفسٌ واحدة يفعل بها هذا في الله عز وجل، وانتهى الأمر إلى أنه قَبَّل
رأسَ طاغية الروم، فأطلقه وأطلق معه سراح ثمانين من أصحابه. وقد رواها ابن الجوزي في كتابيه «الثبات عند الممات»,
وفي «المنتظم», بسنده إلى ابن عباس(20).
الثالث عشر: لا نشهد لمعيَّن بجنَّةٍ أو نارٍ إلا لمن ورَد فيه النص:
وذلك للخاتمة المجهولة، وللموانع التي قد تعرِض، فقد يتوبُ الكفار والمبتدعة والعصاة، وقد يفتن المؤمن فينقلب على عقبيه،
فلا نشهد لمعيَّنٍ بجنة أو نار إلا لمن ثبت فيهم الدليل، كالعشرة المبشرين بالجنة بالنسبة للشهادة بالجنة،
وكقارون وفرعون وهامان وأبيِّ بن خلف بالنسبة للشهادة بالنار، أما من عداهم فنرجو للمحسن ونخاف على المسيء،
وأمرهم إلى الله جل جلاله.
الرابع عشر: من لم يَدِن بدين الإسلام فهو كافرٌ؛ سواء أكان كفرُه عنادًا أو جهلًا:
قال ابن القيم عند حديثه عن الطبقة السابعة عشرة من طبقات الكفار: «والإسلام هو توحيدُ الله وعبادته وحده لا شريك له،
والإيمان بالله وبرسوله، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبدُ بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا فهو كافرٌ جاهل،
فغاية هذه الطبقة أنهم كفَّار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارًا، فإن الكافر من جحد توحيدَ الله
وكذَّب رسوله إما عنادًا، أو جهلًا وتقليدًا لأهل العناد، فهذا وإن كان غايتُه أنه غيرُ معاندٍ فهو متَّبِع لأهل العناد،
بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كلَّ من دان بدينٍ غيرِ دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى
لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحُجَّة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله،
وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جاريةٌ على ظاهر الأمر،
فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم»(21) اهـ.
الخامس عشر: استحقاقُ العذاب وقيام الحجة:
يَحكم هذه القضية أربعةُ أصول: ذكرها ابن القيم رحمه الله في «طريق الهجرتين»:
«أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحدًا إلا بعد قيام الحجَّة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كنَّا معَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا }
[الإسراء: 15]، وقال تعالى: {كلَّمَا ألْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقلْنَا
مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8، 9]، وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 11].
وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذِّب من جاءه الرسول وقامت عليه الحُجَّة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه.
الثاني: أن العذاب يستحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم [إرادة العلم] بها وبموجبها.
والثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها.
فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحُجَّة وعدم التمكن من معرفتها،
فهذا الذي نفى الله التعذيبَ عنه حتى تقوم حجَّة الرسل.
الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص؛ فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان،
وفي بقعة وناحية دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقلِه وتمييزه كالصغير والمجنون،
وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطابَ ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئًا
ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة.
الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعةٌ لحكمته التي لا يخلُّ بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها
الحميدة»(22).
السادس عشر: الحُكم بغير ما أنزل الله منه ما هو كفر أكبر، ومنه ما هو دون ذلك:
فإن كان مردُّه إلى تكذيبِ الحكم الشرعي أو ردِّه، فهو كفرٌ أكبر، لاختلال أصلِ الدين الذي يقوم- كما سبق- على ركني
التصديق والانقياد، تصديقِ الخبر والانقيادِ للشرع.
وإن كان مردُّه إلى محض الإلف والشهوة والهوى مع بقاء الإقرار بما أنزل الله تصديقًا وانقيادًا فهذا هو الكفر الأصغر.
السابع عشر: ردُّ الحكم الشرعي كالتكذيب به؛ كلاهما من نواقض الإيمان:
والمقصود برد الحكم الشرعي: عدمُ قبوله والامتناع من التزامه دينًا يعبد الله به، وحكمًا واجب الاتباع في موارد النـزاع.
فهو يتعلق بالاعتراض على التشريع والامتناع من التزامه ابتداء؛ ولهذا يفرَّق بينه وبين الإصرار الذي هو مجرَّد المداومة على
المعصية وعدم التوبة منها، فهو يتعلق بالامتناع من تنفيذ الحكم، أما الردُّ فهو يتعلق بالاعتراض على تشريعه.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} [البقرة: 34].
ولم يكن كفرُ إبليس عن تكذيب، فإن الله باشره بالخطاب، وإنما كان عن امتناع واستكبارٍ. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65].
يقول الجصاص: «وفي هذه الآية دلالةٌ على أن مَن رَدَّ شيئًا من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله ﷺ فهو خارج من الإسلام؛
سواء ردَّه من جهة الشكِّ فيه، أو من جهة تركِ القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحةَ ما ذهب إليه الصحابة في
حكمهم بارتداد من امتنع الزكاة، وقتلهم وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي ﷺ قضاءه وحكمه،
فليس من أهل الإيمان»(23).
وقد سبق قول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والكفر هو عدم الإيمان؛ سواء كان معه تكذيب أو استكبار أو إباءٌ أو إعراض،
فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر»(24).
الثامن عشر: العلمانية ونقضها لأصل الدين:
العلمانية عزلُ الدين، وعدم الإقرار بمرجعيته في شأن من الشئون، وقد يكون ذلك مطلقًا فيراد به الفصل بين الدين والحياة،
أو مقيدًا فيراد به الفصل بين الدين وبين شأن بعينه من شئون الحياة، كالسياسة، أو الاقتصاد، أو التشريع، أو الإعلام،
أو الأدب، ونحوه.
العلمانية والإيمان نقيضان، المطلقة والمقيدة في ذلك سواءٌ؛ لما تقرر من أن أصل الدين لا يثبُت إلا بالإقرار المطلق
بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم تصديقًا وانقيادًا، فمن رفض الشرعَ في أمر كمن رفضه في كل أمر.
ونقض العلمانية لأصل الدين من جهتي التوحيد والرسالة، فمن جهة التوحيد فهي لا تؤمن بالله هاديًا وآمرًا، وإن آمنت به خالقًا
ورازقًا في بعض البلاد، ومن جهة الرسالة فهي لا تلتزم اتباعَ النبي صلى الله عليه وسلم، وإن صدَّقَت خبره، وأقرت بنبوته في
بعض البلاد.
المناط المكفِّر في باب العلمانية هو رفضُ الشريعة أو جزءٍ منها تكذيبًا بثبوتها، أو طعنًا في حكمتها، أو لمجرد التمرُّد،
واتباع هوى النفس.
من دان بهذه النحلة بعد معرفته بها ومعرفته بدين المسلمين، فقد تلبَّس بكُفر أكبر، مع اعتبار ما تقرر عند أهل العلم من
تحقُّق شروط التكفير وانتفاء موانعه.
الفرق بين العلمانية وبين ما وقع من انحراف في بعض العصور الإسلامية هو الفرقُ بين الكفر والمعصية،
فالعلمانية ترفضُ ابتداءً مرجعية القرآن والسنة في شأن من الشئون، وهو كفرٌ بالإجماع، أما انحرافات الحكم بغير ما أنزل الله فيما
مضي من بعض العصور الإسلامية فقد كانت مع الإقرار بالشريعة، والتسليم بمرجعيتها، وخروج المخالف لها عن مبدأ المشروعية.
والخلط بين المناطين، وتنزيل أحكام أحدهما على الآخر من الأغلاط الشائعة في كثير من الأوساط الدعوية والعلمية المعاصرة.
شيوع روح العلمانية أو بعض مظاهرها في بعض الأوساط لا يستلزم بالضرورة ثبوتَ أحكامها لهم على سبيل التعيين؛
لما تقرر عند أهل السنة من ضرورة التفريق بين الإطلاق والتعيين في باب إجراء الأحكام.
التاسع عشر: الأحزاب السياسية في ظل الأنظمة العلمانية:
الأحزاب السياسية التي لم تتكون على أسس عَقدية، لا تحدد هوية أعضائها، ولا يَنقض الانتسابُ إليها أصلَ إيمانهم،
بل يعامل كلُّ فرد فيها بحسَبِه، ولكنها كعملٌ مؤسسي لا تكتسب الهُويَّةَ الإسلامية إلا إذا كان اجتماعها على الإسلام،
وتحاكمها إلى الشريعة.
أما الأحزابُ التي تكوَّنت على أسس عقدية، فتتحدد هويتها بحسب عقيدتها، ولا ينعكس ذلك على حكم أفرادِها على سبيل
التعيين، إلا بعد توافر الشروط وانتفاء الموانع، فالعلاقة بين هوية الحزب وهوية أعضائه كالعلاقة بين الإطلاق والتعيين
في باب التكفير.
العشرون: وجوب العلم والعدل فيمن يتصدى للحكم على الناس:
قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].
وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]. وقال تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [الشورى: 15].
ومن نواقض الإنصاف: تعميمُ الأحكام، والحكمُ على فردٍ بمجرَّد انتمائه لطائفةٍ، أو الحكمُ على طائفة من خلال فردٍ من أفرادها.
ومن نواقضه كذلك: المبالغةُ والمجازفةُ في الأحكام واختلافها بحسب الرضا والموافقة، أو الغضب والمخالفة، كحالِ يهودٍ حين
علموا بإيمان كعب الأحبار فبدلوا القول من «سيدنا وابن سيدنا» إلى «شرنا وابن شرنا»(25)، والأمثلة على ذلك قديمًا وحديثا
أكثر من أن تحصر.
ومن نواقضه كذلك محاكمةُ المجتهد على اجتهادِه في أول أمره دون آخره، مثل من يَنسب القولَ بإباحة ربا الفضل أو حلِّ نكاح
المتعة لابن عباس رضي الله عنهما، مع أنه قد ثبت رجوعُه عنهما قبل خروجه من الدنيا، والعبرة كما لا يخفى بالخواتيم.
الحادي وعشرون: دعاة لا قضاة:
وأخيرًا: فإن الاشتغال بتعليم الناس وإزالة الجهالة عنهم أولى من الاشتغال بتصنيفهم وإجراء الأحكام عليهم،
لانعدام الجدوى في تصنيفهم، فضلًا عما يترتب على ذلك من تشرذم واختلاف.
يقول شيخُ الإسلام: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالفُ يكفرهم؛
لأن الكفر حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛
لأن الكذبَ والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حقٌّ لله فلا يُكفَّر إلا من كفَّره الله ورسوله.
قال الشوكاني: «اعلم أن الحكمَ على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يَقدُم عليه إلا ببرهان أوضحَ من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة
من الصحابة رضي الله عنهم، أن «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»(26)»(27).
والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «من كفر أخاه بغير تأويل» حديث (6104)، ومسلم في كتاب «الإيمان»
باب «بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر» حديث (60).
(2) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم» حديث (61).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال» حديث (6105)،
ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه
لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» حديث (110).
(4) «إحكام الأحكام» (4/76).
(5) «منهاج السنة النبوية» (5/92).
(6) الأبيات من نونية ابن القيم، وهي من بحر الكامل.
(7) «طريق الهجرتين» ص608.
(8) «فتح الباري» (1/47).
(9) «شرح العقيدة الطحاوية» ص381.
(10) أخرجه مسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد وينقص
وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان» حديث (49) من حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه.
(11) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»
حديث (7440)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «معرفة طريق الرؤية» حديث (183)، من حديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه.
(12) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم»
حديث (7510)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «أدنى أهل الجنة منزلة فيها» حديث (193)، من حديث أنس بن مالك
رضي الله عنه.
(13) أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «القسامة في الجاهلية» حديث (3850) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(14) أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم» حديث (6922)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(15) أخرجه الترمذي في كتاب «تفسير القرآن» باب «ومن سورة ويل للمطففين» حديث (3334)، وابن ماجه في كتاب
«الزهد» باب «ذكر الذنوب» حديث (4244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
(16) «فتح الباري» (12/279).
(17) «الفروق» (4/448).
(18) «إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات» (1/377).
(19) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (2/389) حديث (3362).
(20) «الثبات عند الممات» (1/53)، «المنتظم» (4/320).
(21) «طريق الهجرتين» ص608.
(22) «طريق الهجرتين» ص612.
(23) «أحكام القرآن» (3/181).
(24) «مجموع الفتاوى» (7/639).
(25) أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب « خلق آدم صلوات الله عليه وذريته» حديث (3329)
من حديث أنس رضي الله عنه.
(26) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «من كفر أخاه بغير تأويل» حديث (6104)،
ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر» حديث (60).
(27) «السيل الجرار» (4/578).
يمكنكم الإطلاع على المزيد من فتاوى نواقض الإيمان لفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي
كما ويمكنكم متابعة كافة الدروس والمحاضرات والبرامج الخاصة بفضيلة الشيخ الدكتور صلاح الصاوي