حول من سبَّ الله دونَ علمِه بأنها ردة

السؤال

شيخي وصلني ردُّكم السابق حول من نطَقَ سبَّ الله دونَ علمِه بأنها ردة، فأفتيتني بأنه يُحكم بردته، لكن هذا أشكل عليَّ، أليس من يتكلم بالردَّة وهو لا يعلم أن هذا ردة ولا ينويها مثل الذي يتكلم بكلمة لا يعرف ما تئول إليه ولا يعلم أصلها كمن يتكلم بكلام لا يقصده؟! فأنا أعلم أن الأعمال بالنيات، وهذا الرجل لو علم أن قوله هذا ردة لأنكره وتاب مسرعًا، فما ذنبه إن كان ينطق بكلام لا يعلم بأنه ردة؟

فمن شروط الردة، وكذلك من شروط تكفير المعين: ثبوت الكفر، أو الردة عليه، أهلية الأداء؛ وتعني صلاحية الفرد لأن تعتبر أقواله وأفعاله شرعًا، والعقل، والبلوغ، والاختيار من شروط صحة الأهلية.

وذلك الذي يسب الله من حيث لا يدري أنه ردة فهو لا يقصد ولا يختار الردة، ولا خطرت في باله، فأقصى ما يكون- حسب ظني- فاسقٌ؛ لتلفظه بكلام نجس كهذا، لكن أن أحكم بكفره فهذا فيه إشكال عليَّ!

ملاحظة:

الكثير من معارفي لم يصدق بأن سب الله ورسوله رِدَّةٌ إلا بعد أن جعلتهم يقرأون فتاوى العلماء، وهم توقفوا عن سبِّ الله بعد أن أعلمتهم بالحكم. فهل صلاتهم السابقة ونكاحهم صحيح؟

فالحكم بردتهم في زمن جهلهم لهذه الحقيقة أمر لا أظن أن الشارع قال به، خاصة وأنهم عندما علموا الحق فعلًا صُدموا.

بالله عليك شيخي أليس كلامي منطقيًّا؟وحديث رسولنا يقول: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»([1]). فكيف نُخرِج من الإسلام مَن نيتهم وقلبهم يقول: أنا مسلم. ويظن نفسه مسلمًا ولا يعلم بأنه وقع في رده؟!

مع العلم بأن كلمة «ربي» أو «ديني» أحيانًا تُستعمل باللغة العامية عندما ككلمة «حالي» أو «نفسي» عند الغضب، مثل قول الرجل: «حل عن ربي» أو «حل عن ديني» والعياذ بالله، وهم يقصدون: «اتركني في حالي».

فهل يحكم بكفر قائل هذه العبارة قاصدًا غيرها؟

بالإضافة لذلك أن أخي المتزوج قد كان يسبُّ الله لكنه في خطبة الجمعة سمع الشيخ يقول بأن هذا رِدَّة، فتاب وبكى، وسألني عن صحَّة زواجه في تلك الفترة، فهل هو صحيح أم باطل؟ وغيره من الأعمال هل تصحُّ؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فإن مَن سبَّ الله تعالى، أو سبَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو سبَّ الدين، قاصدًا الدين الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وكان عاقلًا مختارًا قاصدًا لما يقول أو يفعل- فإنه يكون قد تلبَّس بالكفر، ولو لم يقصد الكفر.

فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله في «الصارم المسلول»: «وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفْر كَفَر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرًا، إذ لا يَقصد الكفرَ أحدٌ إلا ما شاء الله»([2]).

وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» عند شرحه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ»([3]): «وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروجَ منه، ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام»([4]).

فمن يرتكب الفعلَ المحرمَ، عالمًا بأنه محرَّم، ولكنه يجهل الأثرَ المترتب عليه- فإن هذا لا ينفعه في دفع هذا الأثر عنه، كالذي يرتكب الزنا وهو يعلم بتحريمِه، ولكنه يجهل عقوبته.

ذلك أن تعظيم الله تعالى وتوقيرَ نبيه صلى الله عليه وسلم مما عُلم من الدين بالضرورة، ولا يُتصور أن يرِدَ على مثل ذلك جهلٌ أو التباسٌ.

أما إذا لم يفهم ما يقول، ولم تتجه نيَّته إلى معناه الكفري، فإنه لا يؤاخذ على ذلك، كالذي أخطأ من شدة الفرح فقال: يا ربي أنت عبدي وأنا ربك([5]). أو هذا الذي يقصُدُ بالدين الذي يسبُّهُ تديُّنَ الشخص وحالَه، وليس الدينَ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

وعلى كل حال نحن هنا نتحدث عن توصيفِ الموقف قولًا كان أو فعلًا، ولكن عندما نتحدث عن إجراء الحكم على معين، فهذا لابد له من توافرِ شروط التكفير وانتفاء موانعِه، وهذا عمل القضاة في الجملة، وليس عمل الدعاة.

فالمقصود هنا هو الزجر والترهيب من السبِّ وأعمال الكفر، والترغيب في الاستقامة والطاعة، في هذا الفلك ندور، وحوله ندندن. وليس المقصود هو الحكم على عقود الزواج بالفساد، وتفريق النساء من أزواجهن، أو الحكم باستباحة دم زيد أو عمر من الناس. ففرق بين مقام الدعوة والترغيب والترهيب، وبين مقام القضاء وإجراء الأحكام على المعينين.

وعلى كل حال أبواب التوبة مفتوحة أمامَ العُصاة والكفار على حدٍّ سواء، وتقبل توبة العبد ما لم يغرغر([6]). فبالتوبة يغفر الله الذنوب جميعًا([7]).

ولا يُحكم بانفساخ عقد الزواج بمجرَّد التلبُّس بمكَفِّر، بل بالإصرار على ذلك أو الموت عليه. قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)} [البقرة: 217].

زادك الله حرصا وتوفيقًا. والله تعالى أعلى وأعلم.

______________________________

([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «بدء الوحي» باب «بدء الوحي» حديث (1)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية» حديث (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

([2]) «الصارم المسلول على شاتم الرسول» (2/339).

([3]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «علامات النبوة في الإسلام» حديث (3610)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «ذكرالخوارج وصفاتهم» حديث (1064). وأبو داود في كتاب «السنة» باب «في قتل الخوارج» حديث (4765) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

([4]) «فتح الباري» (12/301).

([5]) أخرجه مسلم في كتاب «التوبة» باب «في الحض على التوبة والفرح بها» حديث (2747) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

([6]) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (2/ 132) حديث (6160)، والترمذي في كتاب «الدعوات» باب «في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله» حديث (3537)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «ذكر التوبة» حديث (4253)، والحاكم في «مستدركه» (4/ 286) حديث (7659)، وابن حبان في «صحيحه» (2/ 395) حديث (628)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ». وقال الترمذي: «هذا حديث حسن». وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه». وذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1/ 140) وقال: «إسناده حسن».

([7]) قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53].

تاريخ النشر : 31 يناير, 2021
التصنيفات الموضوعية:   09 نواقض الإيمان.

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend