حول تكفير من حكَّم القوانين الوضعية ورضي بها

القول بأن تحكيم القوانين الوضعية والرضا بها كفرٌ أكبرُ مُخرج من الملة بالإجماع ولو بدون استحلال، وبقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} [النساء: 60]. وبقوله تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)} [الكهف: 26]. وهو قول منقول عن الشيخين أحمد ومحمود شاكر وغيرهما.
الاستدلال بفتوى العلامة ابن إبراهيم رحمه الله وقوله: «وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا تحاكم إلى غير الله مع اعتقاده أنه عاصٍ وأن حكم الله هو الحقُّ، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل القوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر وإن قالوا: أخطأنا وحكم الشرع أعدل. فهذا كفر ناقل عن الملة»(1).
وقريبًا من ذلك قول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: «الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنًى واحد، لا فرق بينهما البتة، فالذي يتبع نظامًا غير نظام الله وتشريعًا غير تشريع الله، ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهم البتة فهما واحد وكلاهما مشرك بالله»(2).
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن لهذا القول حَظًّا من النظر، بل لعلَّ هذا هو الأرجح والأولى بالصواب، وهو اختيار كثير من أهل العلم قديمًا وحديثًا؛ فقد قال ابن كثير: «من ترك الشرعَ المحكم المنـزَّل على محمد خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفَر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق؟؟ وقدمها عليه، ومن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين»(3).
لكن فرق بين وصف الفعل بأنه كفر ووصف الفاعل بأنه كافر؛ لما تمهَّد عند أهل العلم من التفريق بين الإطلاق والتعيين في باب التكفير.
نعم إن تحكيمَ القوانين الوضعية التي تبدِّل الشرائع وتحلُّ الحرام في إطار القاعدة القانونية من جنس الكفر الأكبر، ولكن هذا لا يعني ثبوتَ مقتضاه في المعينين من المباشرين لهذا الظلم العظيم حتى تنتفي عوارضُ الجهالة والتأويل والإكراه، وسوف أسوق نماذجَ فقط لما يمكن أن يشغب به هؤلاء أو يشغب به عليهم في هذه القضية في باب التأويل، وذلك في الفقرة الآتية:
شبهات شائعة تحولُ دون إجراء حكم العلمانية على سبيل التعيين؛ تكتنف المناط المكفِّر في باب العلمانية وتحكيم القوانين الوضعية في المجتمعات الإسلامية، شبهات عديدة يتعين التحقق من انتفائها قبل إجراء أحكامها على الآحاد، ومن هذه الشبهات:
• شُبهة تقديم العقل على النقل، أو المصلحة على النص عند التعارض، وأن بعض الأحكام الشرعية قد يُفضي تطبيقُها إلى بعض المفاسد لاختلال بعض الشروط، أو تخلُّفِ بعض المناطات، أو لمجرَّد تطوُّر الزمان، فتكون المصلحة الآنية في عدم تطبيقها (نظرية الطوقي).
• شبهة الاستضعاف على المستوى الدولي، وما يتعرض له تطبيق الشريعة من حمَلات مسعورة (تجربة السودان، وتجربة باكستان، وتجربة أفغانستان).
• شبهة أن كثيرًا من القوانين الوضعية مستمدٌّ من الشريعة الإسلامية في الأصل، فهي مما ترجمه الغربُ من تراثنا الفقهي، فكأنها بضاعتنا رُدَّت إلينا، والنتيجة أن الشريعة مطبقة بالفعل.
• شبهة أن الأحكام الشرعية في باب المعاملات أحكامٌ إرشادية، وأن المقصود منها رُوحها وليس نصوصَها.
• شبهة عدم ثبوت كثير من الأحاديث النبوية المثبتة لكثير من الأحكام الشرعية (مسلسل الهجوم على السنة).
• شبهة تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والأحوال والظروف.(دعاة التنوير).
• شبهة عدم وجود برامج وتقنينات شرعية صالحة للتطبيق.
• شبهة التترُّس بإعلان الانتساب إلى الإسلام، والإعلان في الدساتير عن أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقانون.
• شبهة كفالة إقامة الشعائر، وشيوع بعض المظاهر الدينية، وتبنِّي كثير منها، ورصد الأموال والميزانيات اللازمة لذلك، (إدارات الوعظ، وإدارات المساجد، ترتيبات الحج والعمرة، الاحتفال ببعض المناسبات الدينية، إقامة العديد من الكليات الشرعية …. إلخ).
• شبهة عدم الإعلان النهائي عن العلمانية، وتشكيل اللجان التي تعمل على تقنين الشريعة.
• شبهة انحياز المؤسسات الدينية الرسمية وكثير من المبرزين من أهل العلم إلى الكيانات العلمانية، وتبني كثير من مواقفها السياسية والفكرية (موقف الأزهر، وبعض هيئات كبار العلماء، وبعض المجامع الفقهية، ودور الإفتاء).
• شبهة شيوع التطرُّف والجهالة في أوساط المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن حملة الدعوة إلى ذلك ليسوا حملةَ رسالة أو طلاب آخرة، ولكنهم يتسترون وراء الدين لتحقيق مطامع سياسية.
ولا شك أن وجود هذه الشبهات يتفاوت من منطقة إلى أخرى، وليس المقصودُ افتعالَ وجودها أو تكلُّفَه، وإنما اعتبارها عند إجراء الأحكام، متى احتمل وجودها في منطقة من المناطق، تحوطًا في باب التكفير. والله تعالى أعلى وأعلم.

________________
(1) «فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم» (12/280).
(2) «أضواء البيان» (7/162).
(3) «البداية والنهاية» (13/ 119».

تاريخ النشر : 24 يناير, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية, 09 نواقض الإيمان.

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend