حول حديث حد الرجل امرأته التي كانت تسب النبي ﷺ

جزاك الله خيرًا، وبلغ الله بكم كلمته للعالمين.
أرجو بيان صحةَ الحديث الآتي ذكره؛ لأني سمعت بعض المشتغلين بالحديث يضعفه، فالحديث سكت عنه أبو داود، وعندي أبحاث تفيد صحة الحديث، فأرجو زيادة العلم؟
(باب: الحكم فيمن سب النبي ﷺ
4361: حدثنا عباد بن موسى الختلي، أخبرنا إسماعيل بن جعفر المدني، عن إسرائيل، عن عثمان الشحام، عن عكرمة قال: ثنا ابن عباس: أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي ﷺ وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي ﷺ وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فجمع الناس فقال: «أنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ». فقام الأعْمَى يتخطَّى الناسَ وهو يَتدلْدَل، حتَّى قَعَدَ بين يَدَي النَّبيِّ ﷺ، فقال: يا رسول الله أنا صَاحِبُها، كانت تَشتُمُك وتَقَعُ فيك فأنْهاها فلا تَنتهِي وأزجُرُها فلا تَنزَجِر، ولي منها ابْنَانِ مِثْل اللُّؤلؤتَين، وكانت بي رَفيقةً، فلمَّا كان البارحةَ جعلتْ تَشتُمُك وتقعُ فيك، فأخذتُ المِغْول فوضعتُه في بطنها واتَّكَأْتُ عليه حتَّى قتلتُهَا، فقالَ النَّبيُّ ﷺ: «ألَا اشْهَدُوا أنَّ دَمَهَا هَدَرٌ». «سنن أبي داود» (4/129)(1)).

___________________

(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الحدود» باب «الحكم فيمن سب النبي ﷺ» حديث (4361).

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن هذا الحديث قد صححه الألباني في كتابه «صحيح سنن أبي داود»، الحديث رقم (4361) ، ولغيره من علماء الحديث مقالات أخرى يرجع إليها عند أهل هذا الفن.
ولكن دعني أنبهك إلى مسألة مهمة تتعلق بهذا الحديث، إن هذا الحديث إذا وضع عند غير أهله، قد يسيئون فهمه وتطبيقه، وقد يقولون: إنه يجوز لآحاد الناس إقامة الحدود على مَن تلبَّس بموجبها.
وها هو النبي ﷺ قد أقرَّ مَن أقام الحد على مَن شتم النبي ﷺ، وعندما يشاع ذلك في واقعنا المعاصر، ويوضع عند غير أهله، سيُظلم به فريقان من الناس:
فريق يتجرءون على الافتيات على الحاكم، ويجمعون بين سلطة الاتهام والقضاء والتنفيذ. ومن المعلوم أن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، وإن القول بغير ذلك يعني إشاعة الفوضى والتواثب بين الناس.
وفريق آخر يشنعون به على الإسلام! ويقولون هذه هي الشريعة التي تتداعون إلى تحكيمها! وهذه هي ضمانات العدالة فيها.
وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية : إلى هذا الإشكال، وأجاب عنه بقوله: «وجوابه من وجوه:
أحدها: أن السيد له أن يُقيم الحد على عبده، بدليل قوله ﷺ: «أَقِيمُوا الْـحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»(1).
وقوله: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَحُدَّهَا»(2)، وهو في الصحيحين بلفظ: «فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ»(3).
ولا أعلم خلافًا بين فقهاء الحديث أن له أن يقيم عليه الحد، مثل حد الزنى والقذف والشرب، ولا خلاف بين المسلمين أن له أن يعزره.
واختلفوا هل له أن يقيم عليه قتلًا أو قطعًا، مثل قتله لردته، أو لسبه النبي ﷺ، وقطعه للسرقة؟ وفيه عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما: يجوز، وهو المنصوص عن الشافعي، والأخرى: لا يجوز، كأحد الوجهين لأصحاب الشافعي، وهو قول مالك، وقد صح عن ابن عمر أنه قَطَع يد عبدٍ له سرق، وصح عن حفصة أنها قتلت جارية لها اعترفت بالسحر، وكان ذلك برأي ابن عمر؛ فيكون الحديث حجة لمن يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده بعلمه مطلقًا.
الوجه الثاني: أن ذلك أكثر ما فيه أنه افتيات على الإمام، والإمام له أن يعفو عمن أقام حدًّا واجبًا دونه.
الوجه الثالث: أن هذا وإن كان حدًّا فهو قتل حربي أيضًا، فصار بمنزلة قتل حربي تحتم قتله، وهذا يجوز قتله لكل أحد.
الوجه الرابع: أن مثل هذا قد وقع على عهد رسول الله ﷺ، مثل المنافق الذي قتله عمر بدون إذن النبي ﷺ لما لم يرضَ بحكمه، فنزل القرآن بإقراره، ومثل بنت مروان التي قتلها ذلك الرجل حتى سماه النبي ﷺ ناصر الله ورسوله؛ وذلك أن من وجب قتله لمعنى يكيد به الدين ويفسده ليس بمنزلة من قتل لأجل معصيته مِن زنًى ونحوه»(4).
وأمثل هذه الوجوه الأول والثاني، وعلى الأول فلا مجال لتطبيق هذا الحكم، وقد انتهى وجود الرق من الناحية العملية، وعلى القول الثاني فلا يزال هذا الفعل يمثل مخالفة شرعية تستوجب في الأصل عقوبة تعزيرية، ومرد الأمر فيها إلى السلطان، وله أن يمنع ذلك، وأن يعاقب عليه بعقوبة بليغة تردع عنه، وإن كان له الحق في العفو في بعض الحالات.
والاستشهاد على شناعة جرم سب النبي ﷺ مقدور بعشرات النصوص والآثار الأخرى، فربما بقي هذا النص في إطار المضنون به على غير أهله مخافة إساءة تأويله. والله تعالى أعلى وأعلم.

______________________

(1) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/95) (736) وغيره، وحسنه الأرناءوط لغيره، ومال الألباني إلى أن هذه الجملة من كلام علي، كما في «الإرواء» (2325).

(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الحدود» باب «في الأمة تزني ولم تحصن» حديث (4470) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4470).

(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «البيوع» باب «بيع المدبر» حديث (2234)، ومسلم في كتاب «الحدود» باب «رجم اليهود أهل الذمة في الزنى» حديث (1703)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4) «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لابن تيمية (2/519-520).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 الإيمان بالرسل., 09 نواقض الإيمان.

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend