أنا من المسلمات الجدد، القادمات من الغرب، وقد فررت بديني وقمت بهجرة إلى مصر لأعيش في بلاد المسلمين وبين الأمة الإسلامية، هذا وإن كثيرًا من المسلمين والمسلمات الجدد فعلوا نفس الشيء بناء على نصائح لهم من علماء الدعوة السلفية أن يهاجروا بدينهم إلى أرض إسلامية ليأمنوا من الفتنة في الدين التي يواجهونها في الغرب، ومعظم هؤلاء من الأمريكيين الأفارقة، وقد جاءوا مع أولادهم ليأمنوا عليهم من الفتنة ولتنشئتهم في بيئة إسلامية، ولتَتكَوَّن لديهم شخصية إسلامية قوية، والمشكلة أنه عندما جاء هؤلاء هالتهم هذه الفجوة بين ما عليه عموم الناس في هذا المجتمع وما تعلموه عمَّا كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبروا من كثير من العلماء أن البدعة منتشرة في مصر، وخاصة لدى الأزهر؛ ولهذا عاودهم الخوف مرة أخرى على أنفسهم وعلى أولادهم! فأرسلوا أولادهم إلى معاهد خاصة لتعليم اللغة العربية الفصحى والقرآن والحديث والفقه، ثم قاموا بتعليمهم منزليًّا العلوم المدنية الأخرى، وأحيانًا يرسلونهم إلى المدارس الأمريكية أو الفرنسية إذا لم يستطيعوا أن يقوموا بتدريسهم منزليًّا، وذلك لكي يتجنبوا إرسالهم إلى الأزهر مخافة البدع! وهم في نفس الوقت يحرصون على الصلاة في مساجد معينة، ليتأكدوا من أن أئمتها ليسوا بمبتدعين، وليتمكنوا من مقابلة بعضهم بعضًا، والمشكلة في هذا أن الأطفال قد عزلوا عن المجتمع المصري، وقد أصبحوا تقريبًا أميين؛ لأن أمهاتهم لا يستطعن تدريسهم في المنازل، سيما مع كثرة الأولاد التي يتميزون بها، فما تقديرك لهذا الوضع؟ هل هذا هو الحل الأمثل في زمان الفتنة؟ هل ترى أنه يجب علينا تجنب إرسال أولادنا إلى الأزهر وعزلهم عن المجتمع المصري بسبب سوء أخلاق كثير من أهله؟ أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن هجرة المسلمين الجدد إلى المجتمعات الإسلامية التماسًا لتعلم الدين واللغة العربية عمل صالح، نرجو أن يثيبهم الله تعالى عليه، وإن يعوضهم عما تركوه وراءهم من عرض الدنيا، وأن يرزقهم الصبر على لأواء الهجرة وشدتها؛ فإن أمر الهجرة لشديدٌ! كما أخبر بذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم(1)، علمًا بأن الهجرة إلى بلاد الإسلام تتفاوت أحكامها: فتجب في حق من تيقَّن أو غلب على ظنه أن يُفتن هو أو من يعول في دينه، وحيل بينه وبين إقامة شعائر ربه.
وتمنع في حق من تعيَّنت إقامته لتعليم الإسلام، ورعاية أبنائه، ودفع شبهات خصومه.
وتشرع فيما وراء ذلك، أي لمن كان قادرًا على إظهار دينه وآمنًا من أن يفتن فيه، هو ومن جعلهم الله تحت ولايته، ولكنه قصد بها مزيدًا من الاحتياط في تجنب الفتنة في الدين، وتحقيق التناصر بين المؤمنين.
ولكن ينبغي الانتباه بصفة عامة أن الأولى بمن كانت ملكاته تؤهله للدعوة إلى الله من مسلمي البلاد غير الإسلامية أن يتشبث بالإقامة في تلك البلاد، وإظهار ما يمكنه إظهاره فيها من شعائر الإسلام، والصبر على ما يصيبهم من بلاء، باعتبارهم النواة الأساسية الأقدر على توطين الإسلام في هذه المجتمعات، وذلك إنما يكون بطبيعة الحال بعد التزود بما يلزمهم من العلم الشرعي الذي يؤهلهم للدعوة إلى الله على بصيرة.
ومن يمن هؤلاء المسلمين الجدد أن يوفقوا في أول طريقهم إلى صاحب سنة يبين لهم طريق الهدى، ويعينهم على الاستقامة عليه، في زمن مرج فيه الدين، وتعددت فيه الرايات، واختلطت فيه المفاهيم، وأن يحول بينهم وبين أهل الغلو الذين يدخلونهم في شعاب ملتوية من الحرج والضيق والتعسير.
وبقي أن نعلم أن الكمال عزيز، وأن مبنى الشريعة على تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين، وأن ما لا يدرك كله لا يُترك جله، وأن المرء يتكلف من الأعمال ما يطيق؛ حتى لا يبغض إلى نفسه عبادة ربه.
أما قضية اعتزال المجتمع بمدارسه وعلمائه ومؤسساته التعليمية فهو أمر يحتاج إلى مراجعة جذرية، فالصورة الذهنية والتي تقرأ في الكتب عن مجتمع الصحابة لا نعرف وجودها اليوم في مجتمع على ظهر الأرض! وإنما تتفاوت المجتمعات في مدى قربها أو بُعدها من التدين الصحيح، وعلى المؤمن أن يختار أقل هذه المجتمعات سوءًا، وأقربها إلى الاستقامة، وأن يكون له دوره الإيجابي في استصلاح أحوالها، ودعوة أهلها إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم(2).
ولو أننا اشترطنا هذه الصورة المثلى للتعامل مع المجتمعات المعاصرة لاقتضى ذلك أن نعتزل في شعفة من شعف الجبال، وهيهات هيهات.
وأضرب على ذلك مثالًا بالملابس البيضاء التي يخاف أصحابها بطبيعة الحال عليها من أن تتأثر بالغبار والأتربة، إنهم بين خيارين: إما اعتزال النزول بها إلى الشارع بالكلية من أجل المحافظة عليها، فتفقد بذلك دورها ووظيفتها، ويصبح وجودها وعدمها سواء. أو أن تلبس ثم يتابع غسلها وكيها وتنقيتها عند الاقتضاء، فينتفع بها ولا تعطل عن أداء وظيفتها. فأي الخيارين أرضى لله وأقوم بمصالح عباده؟!
يأتيك الجواب النبوي: «الْـمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْـمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»(3).
ولو أن أحبابنا هؤلاء صبروا أنفسهم على التعليم المنزلي لأولادهم، وإلحاقهم بالمدارس فقط عند الامتحانات لكان لهم في ذلك تأويل ومندوحة، ولكنهم لا يطيقون صبرًا على ذلك، سيما مع ما ذكر من كثرة عدد الأولاد التي يتدينون بالإكثار منهم، وهم في ذلك محقِّون. ومع هذه الكثرة الكاثرة يبدو التعليم المنزلي للناشئة خيارًا نظريًّا لا يتنسى تطبيقه في الواقع في أغلب الأحوال، وإلا فقدت ربة البيت عقلها وأعصابها، وانتهى بها الحال إلى إحدى المصحات النفسية.
ومن العجيب أن من عجز من أحبابنا هؤلاء عن التعليم المنزلي كان البديل لديه هو المدارس الأجنبية: الفرنسية أو الأمريكية أو البريطانية. ولم تقع العين على أعجب من ذلك، أن يعتزل الأزهر ليكون البديل هو المدارس الأمريكية والفرنسية والبريطانية، وقد علم العقلاء جميعًا أن الأزهر على ما يشوب بعض مناهجه من دخن لا يقارنه أحد يؤمن بالله واليوم الآخر بتلك المدارس التي تدرس التثليث، أو تلك التي لا تدين بدين، وتربي ناشئيها على الفصل بين الدين والحياة، فيفوتهم تعلم الدين واللغة معًا، وهو الدافع الأصلي والأقوى لهجرتهم إلى المجتمعات الإسلامية من حيث المبدأ.
والحل الذي أقترحه على أحبابنا هؤلاء ألا يحرموا أولادهم وفلذات أكبادهم من التعليم النظامي العام الذي تمنح به الشهادات، ويبنى عليه دعائم المستقبل التعليمي والوظيفي لأولادهم، ومن تيسر له إرسال أولاده إلى بعض المدارس الإسلامية الخاصة التي يثق في مناهجها وسلوك القائمين عليها، والتي تعمل تحت إشراف وزارة التعليم وتعترف الدولة بشهاداتها فذلك خير له وأولى له، وإن لم يتيسر له ذلك لضيق ذات يده بالنسبة لمصروفات التعليم الخاص وتيسر له إرسال أولاده إلى الأزهر فلا يتردد في ذلك، وفي الأزهر تفوق في علوم الآلة، كعلم أصول الفقه: وهو يتعلق بأدلة الفقه الإجمالية، وعلم القواعد الفقهية: وهو يتعلق بالقواعد الشرعية الشاملة التي تستخرج من الكتاب والسنة، وعلوم اللغة العربية: وهي علوم تتعلق بلغة العرب: كالنحو والصرف والبلاغة والأدب والشعر والاشتقاق وغيرها. وعلم التأريخ: وهو يتعلق بالدول الإسلامية والأحداث التي مرت بها الأمة عبر التاريخ الإسلامي، وما يستفاد من ذلك من الدروس والعبر. الخ.
وما يخشونه من شوب دراسة العقيدة ببعض آثار المتكلمين ونحوه فهذا أمر يتسنى تداركه، ويمكن العناية بالطفل في هذا الجانب، وإزالة أي أثر سلبي يترتب عليه بسهولة ويسر، فلا ينبغي تضييع هذه المصلحة الكبرى من أجل مفسدة مظنونة يمكن تفاديها.
أما حرصهم على مساجد خاصة يُقيم أئمتها السنةَ فهو حرص حميد، ما لم يبن على الغلو في تكفير الآخرين من المبتدعة أو العصاة، أو الغلو في تصنيفهم وتبديعهم، وتتبع سقطاتهم وعوراتهم.
ففي «شرح الطحاوية» لابن أبي العز:
«والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجورًا لا يُرتَّبُ إمامًا للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنًا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعيَّة، ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة.
وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلفه أفضل، فإذا أمكن الإنسان ألا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشَرٍّ أعظم ضررًا من ضرر ما أظهر من المنكر- فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما؛ فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، بحسب الإمكان.
فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادًا من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لاسيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورًا، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البَرِّ، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ، فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد العلماء: منهم من قال. يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد. وموضع بسط ذلك في كتب الفروع»(4).
وأختم هذا بمناشدة الله كل من تبلغه كلمتي هذه من أهل بلاد الإسلام: أن يحفظوا لإخوانهم المهاجرين إليهم من المسلمين والمسلمات الجدد حقهم، وأن يكرموا وِفَادَتَهم، وأن يُقدِّروا معاناتهم، وأن يذكروا أن هؤلاء ضيوف الإسلام، وضيوف نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وأن يتذكروا عندما يرونهم قصة الأنصار مع المهاجرين، وان يتمثلوا في التعامل معهم قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
إنه لمن المخجل ومن العار أن يستغل بعض ضعاف الإيمان في المسلمين غفلة هؤلاء وغربتهم، فيغلي عليهم الأسعار، ويمعن في ابتزازهم وانتقاص حقوقهم، ويوسعهم غشًّا وخديعة وتدليسًا، ويشق عليهم في التعامل، فيقدم بذلك أسوء دعاية يمكن أن يقدمها أصحاب دين عن دينهم الذي ينتسبون إليه، إنه يبيع حظه من الآخرة وحظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعاعة من الدنيا، بثمن بخس دراهم معدودة.
أما درى من يفعل ذلك أنه يئول في حقيقة الحال إلى أن يكون قاطع طريق، وقطاع الطرق يقطعون الطرق لاستلاب الأموال أو لترويع السابلة، وهذا قاطع طريق لاستلاب الإيمان، وصد الناس عنه وفتنة الناس فيه، فيا لهول موقفهم غدًا بين يدي الله عز وجل! اللهم غفرًا! اللهم اهد هؤلاء فإنهم لا يعلمون. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) فقد أخرج مسلم في كتاب «الإمارة» باب «المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير» حديث (1865) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن أعرابيًّا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال: «وَيْحَكَ! إِنَّ شَأْنَ الْـهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم. قال: «فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟» قال: نعم. قال: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ؛ فَإِنَّ اللهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا».
(2) فقد أخرج أحمد في «مسنده» (2/43) حديث (5022) ، والترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة الحوض» حديث (2507) ، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «الصبر على البلاء» حديث (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْـمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْـمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ». وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (939).
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/43) حديث (5022) ، والترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة الحوض» حديث (2507) ، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «الصبر على البلاء» حديث (4032) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4) «شرح العقيدة الطحاوية» (1/422).