فضيلة المفتي؛ تقع خلافاتٌ زوجية، وتنتهي إلى الطلاق، وتقول الزوجةُ وأهلها أنهم يعيشون في هذا البلد فينبغي أن يحكمهم قانونُها في حلِّ هذه الخلافات، وتستحلُّ المطلقة بذلك نصفَ أموال زوجها، وتنشأ شركات فيتوسع أصحابها في الاستدانة بالربا بدعوى أن هذا هو اقتصاد البلد الذي نعيش فيه وتلك هي آلياته، والأحناف يقولون بجواز الربا في دار الحرب.
فإن أحلتهم إلى الفقه الموروث قالوا لقد أفتى الفقهاء لزمانهم، وإن أحلتهم إلى أهل العلم في المشرق قالوا لا يعيشون بيننا ولا يدرون شيئًا عن أحوالنا، والفتوى تختلف باختلاف الزمان والبلدان، وإن أحلتهم إلى بعض أهل العلم في الغرب قالوا هؤلاء متشددون واختلاف أمتي رحمة.
والنتيجة التحلُّل من كثير من التكاليف الشرعية، وفتنة كثير من غير المسلمين عن الدخول في الإسلام لما يرون من هذه الجرأة، فماذا تقول لهؤلاء؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن من حُسن الجوار في العلاقة مع المجتمع الذي نعيش فيه أن نبذل لأهله حقوقَهم في الدعوة إلى الله عز وجل، وتألُّفِ قلوبهم على الإسلام، فإنَّ على المسلم المغترب خارجَ ديار الإسلام رسالةً سامية تتمثل في حفظ الإسلام على أهله، ودعوةَ غير المسلمين على الإسلام.
وأولُ ذلك وآكدُه أن يحافظ المسلمون على هُوِيَّتِهم في هذه المجتمعات باجتماعهم على الإسلام وتحاكمهم إلى شرائعه، وإقامةِ ما يتسنى لهم إقامتُه من معالم الدين، وأن لا يستبيحوا شيئًا من المحرمات بحجَّة الإقامة خارجَ ديار الإسلام، فإن المسلم مطالبٌ بتقوى الله حيثما كان، والدعوة بلسان الحال أبلغُ من الدعوة بلسان المقال، فإن حال واحدٍ في ألف واحد أبلغُ من مقالةِ ألفِ واحد في واحد.
ونحن نؤكد على هذا الـمَعلم نظرًا لما ذكرتَه مما شاع في أوساط بعضِ الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب عمومًا من الترخُّص في بعض المحرمات القطعية في الشريعة؛ بدعوى أن المسلمَ ليس ملتزمًا بإقامة أحكام الإسلام الاقتصادية والمالية خارجَ ديار الإسلام، وأنه يباح في دار الحرب من العقود الفاسدة ما لا يباح مثله داخل ديار الإسلام، وقد ترتَّب على ذلك استباحةُ كثير من هذه الحرمات مما يُوشك أن تنتقض معه عُرَى الإسلام عروةً عروةً في هذه الأوساط، وفي ذلك من الخطورة على حاضر الدعوة ومستقبلها في هذه المواقع ما فيه؛ الأمر الذي يقتضي ضرورةَ التنبيه والنكير، إذ لا شيء يحمل الناس على الإصغاء لدعوة الحق في هذه المجتمعات مثل أن يكون الدعاةُ إليه والمتبعون له ممن يقيمونَه في حياتهم، فيُحِلُّون حلالَه ويحرمون حرامه.
ولقد مضى على إقامتنا في هذه المجتمعات أكثرُ من عشرين عامًا، وكل يوم ينقضي يزيدنا إيمانًا بهذه الحقيقة، فلم نملَّ من تكرارها على مسامع الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب: أقيموا الإسلامَ في نفوسكم تُفتح له أسماعُ الآخرين وأفئدتهم، وإن من آكد وسائل البلاغ في هذا المجتمع إقامةُ جالية مسلمة قويَّة تحل الحلالَ وتحرِّم الحرام وتقف حيث أوقفها الله ورسوله، وتقدِّم للناس في هذه المجتمعات شهادةَ الواقع بعد شهادة النصوص والأدلة؛ أن الحياة في رحاب الإسلام نعمةٌ لا تعدِلُها نعمة، وأنها ممكنة وليست ضربًا من الخيال أو ضغثًا من الأحلام.
ولا يخفى أن انتشار الإسلام في كثير من بقاع العالم كان من خلال التُّجَّار الدعاة الذين حملوا أخلاق الإسلام إلى هذه المجتمعات، ففتحوا بها قلوبَهم واستنارت بها بصائرُهم واستجابت لدعوة الحق.
هذا وإذا كانت المحافظة على الهوية الإسلامية في هذه المجتمعات تتمثل في الاجتماع على الإسلام بإقامة الشعائر واجتناب المحرمات، مع اعتبار الضرورات على أن تُقدَّر بقدرها ويسعى في إزالتها- فكيف يتأتى دعوةُ غير المسلمين إلى الإسلام أو حتى تعريفهم به في ظل جالية يتملك المسلمون فيها محلات لبيع الخمور والخنزير ويسهمون في إشاعتها في هذه المجتمعات، ثم يقولون للناس: إننا أتباع دين يحلُّ لأتباعه الطيباتِ ويحرم عليهم الخبائث، وإنه يحرِّم عليهم الاتجار في الميتة والخمر ولحم الخنزير، وينهى عن الزنى والربا وأكل أموال الناس بالباطل؟! أيًّا كانت المرتكزات الفقهية لهذا الترخص وأيًّا كان حظ القائمين عليه من النظر؟!
وإن ما ذكرته من استباحة المطلقة لنصف أموال زوجها عند الطلاق حكمٌ بغير ما أنزل الله، وجرأةٌ منكرَةٌ على ما حرَّم الله، فإن للمطلقة مؤخرَ صداقها ونفقةَ عدتها، ومتعةً بالمعروف، وما زاد عن ذلك وأخذ من مال الزوج بغير طيب نفس منه فهو سحتٌ.
وإن ما نسب إلى السادة الأحناف أو من غيرهم عن دار الحرب وعن جواز التعامل فيها بالعقود الفاسدة ففضلًا عن اعتماده على شبهات واهيةٍ ومخالفته لما عليه جماهير أهل العلم، فإنه يجبُ أن يؤخذ في سياقاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية، فلم يكن أهل الإسلام فيما مضى يتوطنون خارج ديار الإسلام بصورة دائمة، وينشئون في مهجرهم مراكزَهم ومؤسساتهم الإسلامية، ويتاح لهم فيها من حرية الدعوة وحرية العمل وحرية الكلمة ما هو متاح لجالياتنا المسلمة المقيمة في الغرب، والتي يفوق تعداد بعضها عدد السكان الأصليين من بعض دول عالمنا الإسلامي، ويتحدثون فيها عن قضية توطين الدعوة وتحويلها من دعوة مهاجرة يحملها طلاب وافدون يقيمون فيها بصورة عارضة إلى متوطنين أصليين يحملون جنسية هذه المجتمعات ويوطنون لإقامتهم فيها بصورة نهائية أو شبه نهائية.
وفي إطار هذه النظرة تغير موقف فقهائنا من قضية التجنُّس؛ فلم تعد تحمل ما كانت تحمله من دلالات أدت ببعض أهل الفتوى إلى القول بردة المتجَنِّس عن الإسلام في وقت من الأوقات.
إن الإصرار على تسمية هذه المجتمعات دارَ حرب سوف يحمل من اللوازم ما لا يقول به ولا يلتزمه أشدُّ الناس تحمسًا لهذا الإطلاق؛ من حرمة الإقامة فيها وعدم الاعتداد بدماء المقيمين فيها ولو كانوا من المسلمين، وانفساخ عقود الزواج بين الزوجين إذا هاجر أحدُهم إلى هذه الديار، وغير ذلك مما هو مسطور في بعض كتب السادة الأحناف، ولا يقول به من يتحمس لهذه التسميات.
لقد كان فقهاؤنا فيما مضى يتحدثون عن حُرمة السفر بالمصحف إلى ديار الكفار، وكانوا مصيبين في ذلك غايةَ الإصابة في ظل السياقات التاريخية والسياسية السائدة يومئذ، واليوم نفس هؤلاء الفقهاء يتنافسون في حثِّ الأمة على طباعة المصاحف وترجمة معانيها ونقلها إلى هذه البلاد، ويعتبرونها قربةً من أجلِّ القربات، وهم اليوم مصيبون في ذلك أيضًا غايةَ الإصابة، لتغَيُّرِ الفتوى بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال.
كيف يتأتَّى المحافظةُ على الهُوية الإسلامية مع تبني هذا المذهب؟
إن فتح هذا الباب سيفتح بابًا عريضًا واسعًا إلى خلع الربقة والتفلُّت من التكاليف، فسوف يمتد الأمرُ إلى الربا والميسِرِ، وفي الولايات المتحدة ولايةٌ يقوم اقتصادها كلُّه على الميسر، ويؤمها المترفون والذين في قلوبهم مرض من بني جلدتنا، وفضائحُهم في هذا الشأن باتت تزكم الأنوف، وقد يتدرج الناس من استباحة العقود الفاسدة في باب الأموال إلى استباحتها في باب الأبضاع، ألم تر إلى ما يشيع في هذه المجتمعات من المراقص والأندية الليلية، وهي مشروعة من الناحية القانونية وتتم تحت سمعِ وبصر المسئولين في هذه المجتمعات، فهل على المسلم من حرجٍ إن هو عمل في هذه البارات والمراقص باعتبارها من العقود الفاسدة التي أجازها السادة الأحناف ليتذرع بها إلى أخذ أموالهم التي هي بناءً على تخريجهم على أصل الحل؟! وهل يجرؤ على القول بذلك عالم أو غير عالم؟!
وإذا أبيح الأمر أُبيحت الوسائل الـمُفضية إليه؛ فإذا جاز بيعُ الخمر ولحم الخنزير جاز السعيُ إلى تملكها لبيعِها، فلا حرج على المسلم أن يتملك مزرعة لتربية الخنزير أو مصنعًا لإنتاج الخمور؛ فإنه إن فعل كان هذا أحظى له في باب المال، فمن مزارعه أو من مصانعه إلى المستهلك مباشرة، وذلك أحظُّ له وأكثر استجلابًا لأموالهم التي هي على أصل الحل، بل لا حرج في فتح بعض المؤسسات التعليمية لتعليم أصول الميسر رجاءَ أن يتخرج فيها مقامرون محترفون يجيدون فنون هذه اللعبة ويتمكنون معها من استجلاب أموال القوم، ما دامت على أصل الحل، وما دامت الذريعة إلى الحلال حلالًا؛ لأن الأصول التي أجازت بيعَ الخمر والخنزير لغير المسلمين قد يُعول عليها نفسها في إجازة السعي إلى امتلاك مشروعات اقتصادية تُستثمر في هذا المجال بجامع استجلاب أموال القوم التي هي ابتداءً على أصل الحل.
ومن ثمَّ فلا أحسب عالما منصفًا يقرُّ مثل هذا المسلك الفقهي في ظل كل هذه المتغيرات في واقعنا المعاصر، مهما كان حظُّ هذا المذهب من النظر.
الحديث موصول وله بقية، إن كان في العمر بقية. والله تعالى أعلى وأعلم.