نحبك في الله يا دكتور صلاح، وأسأل الله أن يبارك في عمرك وعلمك.
وسؤالي: لي صديق وهو رجل فاضل ورجل أعمال صالح- ولا نزكي على الله أحدًا- يعمل في مجال الاستيراد للأخشاب، وكان في فترة من الفترات يعمل في مجال الصيدلة؛ فهو دكتور صيدلي أصلًا، ويريد أن يعمل إقامة في كندا، وله محام كندي يعمل في تخليص الأوراق اللازمة لذلك، ورجل الأعمال يريد الإقامة في كندا؛ لأنه يريد شراء منزل هناك، لأنه سوف يرسل ابنه إلى الجامعة هناك، ولا شك أن شراء منزل أفضل من السكن الطلابي أو سكن العائلات؛ للحفاظ على الأخلاق الإسلامية على قدر المستطاع، ورجل الأعمال له جار يمتلك صيدليات، وهو يريد مني أن أطلب من جاره الصيدلي ورقة يشهد فيها صاحب الصيدليات أن رجل الأعمال عمل عنده كصيدلي لمدة خمس سنوات؛ وذلك لكي يتمكن رجل الأعمال من عمل الإقامة في كندا لشراء المنزل لابنه.
فمـا حكـم شفاعتي في هذا الأمر؟ لأني على علاقة قوية بين الطرفين، وأنا أريد الخير، ورجل الأعمال قال لي أنه لن يضر أحدًا ولن يأخذ حق أحد، وأن هذا الأمر فيه مصلحة وهي أن ابنه يتعلم تعليمًا جيدًا، فما رأي فضيلتكم؟ وهل ترون أن هذا الأمر حاجة أم ضرورة أم ماذا؟ وما الفرق بين المصلحة والحاجة والضرورة؟ وما المقدَّم في هؤلاء؟ نريد شيئًا من التوضيح بارك الله فيكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الصدق أمانة والكذب خيانة(1)، وقد سئل النبي ﷺ: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: «لَا». رواه مالك مرسلًا عن صفوان بن سليم (2). وفي الحديث الصحيح: «إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله كَذَّابًا»(3). ولم يرخص النبي ﷺ في الكذب إلا في ثلاثة مواضع: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها؛ فقد روى الشيخان من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْط ل، أنها سمعت النبي ﷺ يقول: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا». قالت: ولم أسمعه يرخِّص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الحرب، وفي الإصلاح بين الناس، وفي حديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها. رواه مسلم بهذه الزيادة(4).
والكذب المرخَّص فيه في العلاقة بين الزوجين إنما يكون فيما يتعلق بالوعد أو الود، أي في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك؛ بأن يعدها بشيء ترضية لها، أو يظهر لها من الود أكثر مما يجده في نفسه حقيقة ترضية لها، أما الكذب الذي يترتب عليه إسقاط حق لها، أو الدخول فيما ليس له أو لها فلا يجوز.
هذا وقد رأى بعض العلماء الاقتصار في جواز الكذب على ما ورد به النص في الحديث، ولكن جوزه المحققون في كل ما فيه مصلحة دون مضرة للغير، يقول ابن الجوزي ما نصُّه: وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحًا، وإن كان واجبًا فهو واجب. اهـ.
وقال ابن القيم في «زاد المعاد»: «يجوز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصَّل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب»(5). اهـ.
فإذا استصحبنا هذا كله وعلمنا أن الأصل فيما ذكرت عدم الجواز، إلا إذا كنا أمام حالة من حالات الضرورات، أو الحاجات الماسة التي تنزل منزلة الضرورات، أو المصالح الظاهرة المعتبرة التي لا يترتب عليها إضرار بالغير، وعلى هذا فإذا كانت هذه الأوراق ستقدم إلى جهة عمل، ومن مصلحة هذه الجهة أن لا تكفل أو تقبل أحدًا لديها إلا إذا كانت له خبرة عملية بالصيدلة فإن مثل هذا الكذب يضر بها؛ لأنه يفوِّت عليها حقها في الحصول على الصيدلي الكفؤ الذي يقوم بمصالحها.
أما إذا كانت مجرد إجراء إداري لترتيب أوراق الإقامة فحسب، فلا يظهر لي ضرر يعود على أحد في مثل هذا الموقف، وبالتالي فقد يستوعبه النظر الشرعي، لكننا ننصح بقوة بالتورية بدلًا من ذلك، ويقصد بالتورية أن تخبر بما قد لا يفهمه مخاطبك على ظاهره، ويكون لك فيه مقصود آخر صحيح، كما لو كان صاحب هذه النازلة قد عمل بالفعل في الصيدلة ولكن في مكان آخر، فيكتب له أنه قد عمل في مجال الصيدلة هذه المدة ويسكت عن كونه قد عمل عنده أو في الشركات التابعة له، أو نحو ذلك مما يخرجه من مضيق الإخبار الصريح بخلاف الواقع، وأرجو أن لا يتوسع في هذا القول، وأن لا تفتي به غيرك في نظائر هذه المسألة، فإن لكل حالة خصوصيتها. زادكم الله حرصًا وتوفيقًا.
بقيت كلمة أخيرة تتعلق بإرسال صاحبك لابنه للإقامة خارج ديار الإسلام، لابد أن يدرك ما يعرض له المقيم في هذه المجتمعات من فتن، وما يتعرَّض له المقيم فيها من خطر يتهدَّده في دينه، وأن يتأكد سلفًا من وجوده في مكان يكون فيه آمنًا على دينه، وقادرًا على إظهاره، وآمنًا من الفتنة فيه، لابد أن يكون لدى هذا الشاب من العلم بدينه ما يقيه فتنة الشبهات، ومن صدق التدين ما يقيه فتنة الشهوات، وقانا الله وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أما الفرق بين الضرورة والحاجة فإنه يتبيَّن بتعريف كل منهما، فالضرورة هي: بلوغ الإنسان حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب الهلاك. والحاجة هي: ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المصلحة، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين- على الجملة- الحرجُ والمشقة.
فهي إذن الافتقار إلى الشيء الذي إذا توفر للإنسان رُفع عنه الحرج والمشقة، وإذا لم يتحقق له لم يحصل له فساد عظيم، مثل الجائع الذي إذا لم يأكل لم يهلك، ويعتبرها الأصوليون مرتبة من مراتب المصلحة، وهي وسط بين الضروري والتحسيني.
وفرق بعضهم بينهما من جهة أن حكم الضروة مؤقت بزمان الضرورة، وحكم الحاجة مستمر، ومع هذا فقد تطلق الضرورة ويراد بها الحاجة، على أن حكم هذه القاعدة ليس على إطلاقه فقد اشترط العلماء في الحاجة المبيحة للمحظور شروطًا أهمها ما يلي:
1- أن تكون الشدة الباعثة على مخالفة الحكم الشرعي الأصلي بالغةً درجة الحرج غير المعتاد.
2- أن يكون الضابطُ في تقدير تلك الحاجة النظرَ إلى أواسط الناس ومجموعهم بالنسبة إلى الحاجة العامة، وإلى أواسط الفئة المعينة التي تتعلق بها الحاجة إذا كانت خاصة.
3- أن تكون الحاجةُ متعينةً بألَّا يوجد سبيل آخر للتوصل إلى الغرض سوى مخالفة الحكم العام.
4- أن تقدَّر تلك الحاجة بقدرها كما هو الحال بالنسبة إلى الضرورات.
5- ألَّا يخالف الحكم المبني على الحاجة نصًّا من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله ﷺ على حكم ذلك الأمر بخصوصه، وألا يعارض قياسًا صحيحًا أقوى منه، وأن يكون مندرجًا في مقاصد الشرع، وألا تفوت معه مصلحة أكبر. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
(1) جزء من خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ؛ أخرجها عبد الرزاق في «مصنفه» (11/336) رقم (20702).
(2) أخرجه مالك في «موطئه» (2/990) حديث (1795)، وذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (16/253) وقال: «مرسل مقطوع… ولا أحفظ هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ من وجه ثابت، وهو حديث حسن، ومعناه أن المؤمن لا يكون كذابًا. يريد أنه لا يغلب عليه الكذب حتى لا يكاد يصدق، هذا ليس من أخلاق المؤمنين».
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «قول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] حديث (6094)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «قبح الكذب وحسن الصدق وفضله» حديث (2607) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الصلح» باب «ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس» حديث (2692)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم الكذب وبيان ما يباح منه» حديث (2605).
(5) «زاد المعاد» (3 /306).