أنا شاب مسلم مقيم في أمريكا، ذات يوم دخلت مسجدَ منطقتنا في الولاية لأداء صلاة العصر وذلك قبل أذان المغرب بساعة ونصف تقريبًا؛ فوجدت مجموعة من الأمريكان يستمعون لدرسٍ حول الإسلام وتعاليمه، كان من بينهم مجموعة من النساء حاسرات الرأس ويلبسن لباس لا يراعي حرمة المسجد، فشعرت بشيء من ضيق الصدر من هذا المنظر؛ لكونه في المسجد بشكل عام وفي مصلى الرجال بشكل خاص.
بعد أيام التقيت بأخينا إمام المسجد وسألته إذا كان بالإمكان أن يطلب من النساء تغطيةَ الرأس، وأن يكون اللباس فيه شيءٌ من الاحتشام، وذلك بأسلوب دعوي، فكان جوابه أنه يستند على فتوى لفضيلتكم بأن هذا شيءٌ يجوز ولا بأس فيه.
فأحببت أن أتبين من ذلك؛ حيث إنني أقدِّرُ علمَكم وشخصكم الكريم، لذا أرجو منكم أخي تبيان هذه المسألة ورأي الشريعة؟ جزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا علاقة لهذا الذي تذكره بالحجاب الشرعي في ذاته ولا بضوابطه، فتلك مسألة مقررة ومقطوع بها في الشريعة، فأرجو أن لا تظن أو أن يظن صاحب الفضيلة إمام مسجدكم أننا نُفتي بأن الحجاب الشرعي من النوافل التي يُمكن تجاوُزها، أو أن صفة الحجاب الشرعي تغيَّرت بتغيُّر الزمان والمكان؛ معاذ الله من ذلك! وحاشا صاحب الفضيلة إمام مسجدكم أن يكون هذا مقصوده، أو أن يظنَّ بنا ذلك!
فقد أصدرنا في مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا عدةَ قرارات تتضمَّن التأكيد على صفة الحجاب الشرعي للمرأة، وتُبين هذا الأمر بجلاءٍ شديد، منعًا للالتباس.
ومنها على سبيل المثال ما جاء في مؤتمره حول نوازل الناشئة خارج ديار الإسلام ونصه ما يلي:
((مواصفات اللباس الشرعي للمرأة المسلمة:
1. أن يستوعب جميعَ البدن، على خلاف في الوجه والكفين عند أمن الفتنة.
2. ألا يكون زينةً في نفسه.
3. أن يكون واسعًا لا يصف.
4. أن يكون صفيقًا لا يشفُّ.
5. ألا يكون مطيبًا.
6. ألا يشبه لباسَ الرجالِ أو غير المسلمات فيما يخصُّهن.
7. ألا يكون لباسَ شُهرةٍ لونًا أو شكلًا، وهو ما يقصد به العُجب، أو يؤدي إليه، ويكون بما خرج عن المألوف، وكان لافتًا للنظر.
لا يجوز للمرأة أن تلبس البنطالَ بصورته الشائعة أمام الأجانب؛ لأنه يُظهر مفاتِنَها، ولكن لها أن تتسرول بسراويلَ واسعةٍ لا تصفُ، وصفيقةٍ لا تشفُّ، إذا كان فوقَ السروال ثوبٌ سابغ إلى الركبتين)).
كما ذكر المجمعُ في دورة انعقاده حول نوازل المرأة المسلمة خارج ديار الإسلام حول هذه القضية ما يلي:
• حجاب في الإسلام ليس ثوبًا ترتديه المرأةُ المسلمة فقط، بل طريقة حياة ومنهج كامل للتعامُل مع جنس الرجال، فالمسلمة تبتعد عن مواطن الشبهات والريبة، فهي لا تخضعُ بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض(1)، ولا تتمايل في مشيتها فتميلُ قلوب الرجال، وهي حريصةٌ على عدم الاختلاط بهم إلا لحاجة.
تطبيقات الحجاب الشرعي تتغير بتغيُّر الأعراف والثقافات:
• شكل اللباس وطريقته متروك للمرأة متى التزمت بالضوابط الشرعية، من كونه ساترًا للعورة بما لا يشفُّ ولا يصفُ، وليس ثيابَ شهرة، وليس فيه تشبُّه بالرجال، أو بثيابِ الفاسقات أو غيرِ المسلمات.
• ليست هناك صورة معينة ملزمة للحجاب الشرعي، فأي ثياب تحققت فيها هذه المواصفات كانت ثيابًا شرعية.
هذا هو موقف المجمع من قضية الحجاب الشرعي، ولكن الذي يتحدث عنه صاحب الفضيلة قضيةٌ أخرى تتعلق بالتراتيب الدعوية المؤقتة، وتراتيب السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله تعالى، فيُترخَّص مع الراغبين في الإسلام في أول الأمر أو مع المسلمات الجُدد، إلى أن يتمكن الإسلامُ في نفوسهن، أو مع حديثات العهدِ بالتوبة إلى أن تُشرِقَ هداية الإسلام في قلوبهن- ما لا يُترخَّص فيه مع غيرهن، فلا يتعيَّن إلزامهن بالحجاب الشرعي أول الأمر، إذا كان ذلك يسبب لهم نفرةً من الاستماع إلى التوحيد، وقضية التوحيد آكدُ من قضيةِ الحجاب، ومنهم من لسن بمؤمنات بالحجاب في هذه اللحظة، فلا يتعيَّن إلزامُهُنَّ به قبل التزامهن بالشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فهذه تدابير مؤقتة يُعطى بها الإمام رخصةً في أول الأمر في أن يتغاضَى عن بعض الأمور التماسًا لمصلحة أعظمَ أو دفعًا لمفسدة أعظم، وهذا هو الذي نصَّ عليه المجمع، وفي أمثال هؤلاء جاء قرار المجمع في دورته حول نوازل الناشئة خارج ديار الإسلام على هذا النحو:
((يجوز السماحُ لغير المحجبات بالحضور إلى المسجد، مع توفير أغطية وخُمُر شرعية، لتمكينهن من أداء الصلاة على الوجه المشروع)).
هذا هو السياق الذي سبق فيه هذا الكلام، ولا شكَّ أن الإمام إذا قدَّر قابلية هؤلاء للالتزام بالحجاب في حضور الدروس منذ اللحظة الأولى كان هذا أولى وأجدر، ولكن مردُّ تقدير ذلك إلى الإمام، ولا ينبغي أن ينازع في ذلك، إلا على سبيل التناصُح الرفيق العام، دفعًا لمفسدة التفرُّق والتنازع. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________________
(1) قال تعالي:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]