هل يصلح التراشق بالتكفير في الخصومات السياسية؟
هل المعارضون للدستور كُفار؟ وهل الذين قاطعوا الاستفتاء من حيث المبدأ كفار؟ وهل يصلح التراشق بالتكفير في الخصومات السياسية؟ وما هو بنظرك الحد الفاصل بين المعارضة المشروعة والإرهاب والتآمر والانقلاب على الشرعية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن المعارضين للدستور ليسوا سواء، فهم أخلاط من الناس، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، كانوا طرائق قددًا:
1. فمنهم فريق من أهل الدِّين، ممن لا يرى في هذا الدستور توطيدًا كافيًا لتحكيم الشريعة، فتأول في معارضته له أنه يريد الإصلاح الجذري في هذه الوثيقة التاريخية! وفي هذه اللحظات الفارقة في تاريخ الأمم! ولم ير مسوغًا للقبول بأوساط الحلول، والالتقاء مع المعارضين الغاضبين في منتصفات طرق، وكان لديه من التشوف لإقامة الدين ونصرة الشريعة أبعد مما تضمنه هذا الدستور.
2. وفي مقابل هؤلاء من المعارضين للدستور من كانت معارضته منطلقة من العداء للشريعة، والخصومة مع الدين والمتدينين، وهؤلاء قلة والحمد لله، أو لمجرد التطلع إلى الحكم والاستغراق في شهوة السلطة.
3. ومن المعارضين للدستور من كانت معارضته لأسباب سياسية بحتة، ممن لا يرون بنظرهم في هذا الدستور كفالة كافية لمطالب الثورة، أو يرون أنه (مسلوق!) تمت كتابته على عجل، ولا يرضون بأنصاف الحلول السياسية كذلك، وهؤلاء كثير، ولدى سوادهم الأعظم من التدين الفطري ما لدى عموم المسلمين.
4. ومنهم المغرر بهم تأثرًا بالدعايات المضادة للدستور، أو لمجرد لعاعة من الدنيا حصل عليها من هذا المعارض أو ذاك.
ولكل وجهةٌ هو موليها، وسوف ينقلبون إلى ربهم منقلبًا واحدًا، ولكنهم يصدرون مصادر شتى، ويبعثون يوم القيامة على نياتهم! يوم تبلى السرائر، ويعرض الخلق جميعًا على ربهم لا تخفى منهم خافية.
• أما الفريق الأول ممن كانت معارضتهم لتأول واجتهاد سائغ، فهؤلاء لهم العذر كله، والتقدير كله، وأبواب الحوار معهم مفتوحة وجسوره ممتدة، فهم شركاء جهاد دعوي وسياسي شريف، والخلاف معهم كالاتفاق والحمد لله، لوحدة الغايات والمقاصد؛ فإن أهل الدين متفقون جميعًا على الإصلاح، ويجمعون جميعًا على حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولكن تختلف آليات وطرائق الوصول إليه عندما تتزاحم المصالح والمفاسد، وتوضع الأمة في مرحلة انتقالية حرجة، يعسر معها تحقيق ما تصبوا إليه من الخير جملة واحدة، ورحم الله عمر بن عبد العزيز الذي أصَّل لهذا المعنى في حواره مع ولده الصالح كما نقله عنه الشاطبي رحمه الله في «الموافقات» حيث قال: «يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! قال له عمر: لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة».
وقد ذكر ابن عبد الحكم قريبًا من ذلك في سيرة عمر بن عبد العزيز حيث قال: «لما ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك: إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أمورًا كثيرة كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها! ولوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور. قال له عمر: أي بني إنك على حسن قسم الله لك، وفيك بعض رأي أهل الحداثة! والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئًا من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا أستلين به قلوبهم؛ خوفًا أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به»(1). اهـ.
فيظل الحوار معهم ممتدًّا، والتواصل معهم قائمًا، والتقدير لبواعثهم ومنطلقاتهم واصبًا، والحمد لله، ونقول لهم: إن دروس التاريخ ودروس الحاضر تؤكد على ضرورة القبول بالتدرُّج المرحلي المنضبط في الإصلاح عند الاقتضاء، بسبب استفحال الفساد وتشعب مجالاته؛ فإن الضعف عن تطبيق بعض الأحكام كما يتصور على مستوى الأفراد، قد يتصور على مستوى الدول، ويرجع في جدولة ذلك إلى الثقات من الفقهاء والخبراء. كما نحيي رفع الهمم للتشوف إلى إقامة الدين كما أنزله الله، والارتفاع بسقف الطموحات إلى تغيير جميع المنكرات، ولا يتعارض هذا مع القبول المرحلي بالممكن والمتاح في الحال، وتهيئة الأسباب لما يمكن تحقيقه في المآل، خشية أن يُفضي الإصرار على غير المتاح في الحال إلى فقد المتاح وغير المتاح في الحال وفي المآل.
ونذكرهم بأن الحراكَ السياسيَّ العامَّ لأهل الدين في المجتمعات ذات التنوع الثقافي ينبغي أن يكون حراكًا إسلاميًّا وليس حراكًا حزبيًّا، ولا يصلح دخول أهل الدين فيه وهم أوزاع متفرقون، لا يضبطهم ضابط، ولا يجمع شتات مواقفهم جامع، فإذا لم يتسنَّ الانطلاق في مسيرة واحدة فلا أقل من أن يكون حراكهم العام عن رضا وتشاور من الجميع من خلال التحاور والتنسيق.
كما نذكرهم بما لا يجهله أمثالهم من أقوال الأئمة الكبار، كقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا بل وإمامًا وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها»(2).
وقوله كذلك: «ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض وكان هو وقومه كفارًا كما قال تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر: 34]. وقال تعالى عنه: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } [يوسف: 39، 40]. ومعلوم أنه مع كُفرهم لابد أن يكون لهم عادة وسُنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكون يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكنَ من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16].
وأخيرًا نقول لهم: إن مسائل السياسة الشرعية التي تعتمد على الموازنات وحسابات المصالح والمفاسد لم تزل من مواضع النظر والاختلاف بين الناس، والمخرج من فتنها أن يتحدث الناس فيها بالبيِّنات وبالحجج العلمية، ثم ينزلون في النهاية على ما يُقرِّره السواد الأعظم منهم؛ فإن ما يكرهونه في الطاعة والجماعة خير مما يحبونه في المعصية والفرقة.
• أما الفريق الثاني: وهم من كانت معارضته منطلقة من العداء للشريعة، والخصومة مع الدين والمتدينين، أو العداء للتيار الإسلامي خاصة فهؤلاء ضحايا الغزو الفكري الذي قاس لهم أحوال مجتمعاتهم الإسلامية على حال المجتمعات الغربية، وصوَّر لهم أن الدين والدولة نقيضان، وأن الجهلَ والشيوخ حليفان، وأن رجال الدين هم دعاة الدكتاتورية المقدسة التي تفرض باسم السماء، وتجعل الانبطاح أمامها من معاقد الإيمان، والخروج عليها هرطقة وزندقة. فأصحاب المشروع الإسلامي بزعمهم يحملون الدعوة إلى دولة دينية ثيوقراطية، تحكم بنظرية الحق الإلهي، وتعيد أبغض ذكريات سياسية عاشها العالم في القرون الوسطى.
ورحم الله الأستاذ محمد عبده الذي انتبه مبكرًا لهذه الفتنة، ورد عليها بقوله: «ليس في الإسلام ما يسمى عند القوم السلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج: (ثيوكراتيك) فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى حق الإيمان». وبقليل من التأمل يزول هذا الالتباس.
فالثيوقراطية إذن هي ذلك النظام من الحكم الذي يجعل من الدين والتفويض الإلهي مصدرًا للسلطة السياسية ويدعي القائمون عليه أنهم مفوضون عن الله، وأنهم ناطقون باسم السماء، فما يحلونه في الأرض يكون محلولًا في السماء، وما يربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وأن جميع قراراتهم هي حكم الله، فيجب الإذعان لها والرضا بها دون مراجعة أو اعتراض؛ لأن الاعتراض عليها يعني الاعتراض على الله الذين يتحدثون باسمه وهم وكلاؤه على الناس! فهي تقوم على ركنين أساسيين:
• التفويض الإلهي للسلطة السياسية، فالحاكم نائب عن الله، وليس نائبًا عن الأمة، وهو مفوض من قبل الله للحكم بين العباد.
• استئثار هذا الحاكم بالحق في التحليل والتحريم والتشريع الديني نيابة عن الله، فكل ما يصدر عنه دين واجب الاتباع، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
وقد عرفت أوربا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطى بناء على الكلمة المأثورة لديهم والتي ينسبونها إلى السيد المسيح عليه السلام: «ما تحلونه في الأرض يكون محلولًا في السماء، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء».
ولهذا كان يملك الأحبار والرهبان حق النسخ والتحليل والتحريم من دون الله، وقد شنع القرآن عليهم في ذلك في قوله تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
وبيَّنَت السنة أن هذه الربوبية كانت في التحليل والتحريم، حيث كان الأحبار والرهبان يُحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحلَّ الله فيحرمونه، وهذه كانت عبادتهم إياهم.
والسؤال الآن هل عرف الفكرُ الإسلامي أو الدولة الإسلامية هذا النوع من الحكم عبر التاريخ؟
إن البدهية الأولى في الإسلام أن التشريع المطلق حقٌّ خالص لله جل وعلا، وإن ادَّعاء التحليل والتحريم من دون الله منازعة لله في أخصِّ خصائص الربوبية، وإن الطَّاعة المطلقة في ذلك عبادة لغير الله، وإنه لا يحلُّ لأحد أن يقول هذا حكم الله أو هذا حلال وهذا حرام إلا حيث يكون النصُّ القاطع المحكم، وإن مبلغ القول في مسائل الاجتهاد أن يقول الفقيه المجتهد: هذا مبلغنا من العلم، وهو صواب يحتمل الخطأ، وليس له أن يلزم به، ولا أن ينكر على مخالفه. فمن أين تأتي شبهة الثيوقراطية في ظل هذه المبادئ الصارمة؟! والفصل التام بين حق الله في التشريع وحق الأمة في التنفيذ؟!
ألم ينعِ القرآن الكريم على بني إسرائيل أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله بما أعطَوهم من حق التحليل والتحريم من دون الله؟! فسوى بين التسليم للأحبار والرهبان بالحق في التحليل والتحريم وبين القول بألوهية المسيح وجمع بينهما في نسق واحد؟! ألم يقل القرآن الكريم:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]؟!
ألم يقُل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَـهُمْ عَلَى حُكْمِ الله فَلاَ تُنْزِلْـهُمْ عَلَى حُكْمِ الله وَلَكِنْ أَنْزِلْـهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ الله فِيهِمْ أَمْ لاَ»(3). ففرق بين حكم الله وبين حكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمي حكم المجتهدين حكم الله.
وقد عنون ابن القيم في «إعلام الموقعين» فقال: «النهي عن أن يقال: هذا حكم الله». ثم قال تحت هذا العنوان: «وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أميرَه بُريدة أن يُنزل عدوه- إذا حاصرهم- على حكم الله، وقال: فإنَّك لا تدري أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابِك»(4).
فتأمل كيفَ فرَّق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمِّي حكم المجتهدين حكمَ الله!
ومن هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُكمًا حكم به فقال: «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدًا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا فينبغي هذا، ولا نرى هذا. ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون حلال ولا حرام، أما سمعت قول الله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الحلال: ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله»(5).
ألم ينه كبار الأئمة تلاميذهم ومن جاء بعدهم عن تقليدهم حتى يحتاطوا لدينهم ويستوثقوا لأنفسهم ويأخذوا من حيث أخذوا، فكيف يزعم اليوم مثقف أو غير مثقف أن تطبيق الشريعة يقود إلى الثيوقراطية، ويمهد السبيل لكهنوت الدولة الدينية وجبروتها.
• وأما من كان باعثُه مجرَّدَ التطلع إلى السلطة، وقد استزلته الأهواء والمطامع! وعلى استعداد لأن يحرق البلد بأكملها، أو يستعدي عليها كل القوى الخارجية إرضاء لهذه الشهوة فحسابه على الله! لا نملك إلا مجاهدتهم بالكلمة، ومناصحتهم بالحجَّة، كما قال تعالى:{ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [الفرقان: 52]. وأن ندَعَ أذاهم ونتوكل على الله، كما قال تعالى:{وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } [الأحزاب: 48]. وألا يحملنا بغيُهم واستطالتهم على مقابلتها ببغي مضادٍّ بل بالصبر والتقوى، وما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه!
ونعزي أنفسنا في النهاية بقول الله جل وعلا:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120]. وكلما أتيحت فرصة وعظناهم، وقلنا لهم في أنفسهم قولًا بليغًا، كما قال تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } [النساء: 63]، وألا نمَلَّ من ذلك أو نستيئس فنستحسر ونترك خطابهم بالكلية؛ فقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف: 164].
• أما الفريق الثالث وهم من كانت معارضته لأسباب سياسية بحتة، ممن لا يرون بنظرهم في هذا الدستور كفالةً كافية لمطالب الثورة، ومن يلتحق بهؤلاء ممن كانت معارضته تأثرًا بالدعايات المضادة للدستور سواء أكانت من أبواق العلمانية وخصوم المشروع الإسلامي، أو كانت ممن يعارضون الدستور معارضة سياسية بحتة، ولديه من التديُّن الفطري ما لدى عموم المسلمين فلا بديل من الحوار المجتمعي مع هؤلاء، والمحافظة على حقهم في توصيل القول إليهم لعلهم يتذكرون، وأن يكون رُقِيُّ خطابنا مع المخالف ورقي تعاملنا معه دعوةً صامتة لهؤلاء؛ فإن حال واحد في ألف واحد خير من مقالة ألفٍ واحد في واحد!
ولا ننكر أنَّ للقول تأثيرَ السحر، وأن وسائلَ خطابنا العام لم ترقَ بعد إلى مستوى التحدي، وأنَّ الانفعال أثناء المقال أو الحوار يفقد المحاوِر وقارَه واتزانه وقبول الناس له، فـ«لَيْسَ الْـمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ»(6)، وأن دفعَنا بالتي هي أحسن السيئةَ خيرُ مفتاح لمغاليق القلوب، { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
وأن من لم يأنس في نفسه القدرة على ضبط النفس، وطلاقة الوجه، ولين القول أثناء المحاورة أو الكتابة، فخير له أن يعتزل الخطاب العام مرحليًّا، وأن يخلي الساحة لمن هو أقدر منه على ذلك. وأن من التقوى أن تنصف الدعوة من نفسك، ولم يكن هدي سلفنا الصالح التشوف إلى التصدُّر، ولم تستخفَّهم قطُّ شهوة الحديث في المنابر العامة، بل على النقيض من ذلك كانوا أزهدَ الناس فيها، وأرغب الناس عنها؛ يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: «لقد أدركت مائة وعشرين من الأنصار في المسجد، ما كان منهم من محدث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث، وما كان منهم من مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا»(7).
• أما الفريق الرابع من أصحاب الشهوات الذين استخفَّتهم المطامع أو استذلتهم الحاجاتُ فلا بديل من أن نصبرَ أنفسنا معهم، وأن نجتهدَ في استصلاح أحوال البلاد، ومحاربة الفقر والجهالة التي تجعل من هؤلاء ضحايا سائغة للمبطلين والفاتنين والذين في قلوبهم مرض!
إن بعض دعاة الـمِلل الأخرى قد يستغل فقرَ البسطاء وجهلهم في أفريقيا، فيلوح لهم بلعاعة من الدنيا، فيمسك الخبز والدواء في يد، وما يزعمه كتابًا سماويًّا في اليد الأخرى، فيفتن منهم من يَفتن، ويعصم الله منهم من سبقت له السعادة! وليس لنا مثَلُ السوء! ولكن الذي نقرره في هذا المقام أن مِن آكدِ حقوق أُمتنا علينا أن نجتهد في استصلاح أحوالها، وأن نُشارك في حل أزماتها، وفي توفير حدِّ الكفاية لعموم أفرادها؛ فإنه لا أمان ولا اختيار ولا رُشد لجائع ولا لعارٍ، ولا لمحروم ولا لمهضوم! فتلك هي جذور المشكلة حتى نُعدَّ أنفسنا للتعامل معها، وذلك بإشاعة الرحمة بالبائسين، وبذل العون للكادحين، وتوفير حد الكفاية للمعوزين، وأن ندرك أن البطون الجائعة لا تُطعمها الخطب العصماء، ولا المواعظ الرقيقة، كما أن الصغار إذا جاعوا فليست تشبعهم قبُلات الأمهات! ورحم الله المنفلوطي إذ يقول: «لو تراحم الناس ما كان بينهم جائع ولا عار ولا مغبون ولا مهضوم، ولأقفرت الجفون من المدامع، ولاطمأنت الجنوب في المضاجع، ولمحت الرحمةُ الشقاءَ من المجتمع كما يمحو لسان الصبح مداد الظلام… إلى أن قال: أيها السعداء أحسنوا إلى البائسين والفقراء، وامسحوا دموع الأشقياء، وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
هؤلاء هم المعارضون للدستور أو المقاطعون للاستفتاء، وهم كما رأيت ليسوا سواء، ففيهم من هو أشد غَيْرةً على الدين من بعض الموافقين، ومنهم من كانت خصومته صريحةً مع الدين والمتدينين، وبين هؤلاء وهؤلاء مراتبُ، قد يكون بعضهم أقرب إلى الأولىن، وقد يكون بعضهم أقرب إلى الآخرين، والله يتولى السرائر. فجمع هؤلاء جميعًا في خندق واحد على تبايُن منطلقاتهم من الظلم الذي يسخطه الله ورسوله!
ولا مجال لتكفير معيَّنٍ في هذه الخصومات والأجواء المشحونة بالشبهات، إلا إذا تبنى موقفا نهائيًّا ضد الشريعة، فأعلن صراحة عن رفضها، أو سبَّ أحكامها على الملأ، أو أعلن تفضيله للشرائع الوضعية عليها، أو جاء من الأفعال ما يكون قاطع الدلالة على شيء من ذلك، ومثل هذا الموقف حتى مع هؤلاء لا تثبت به الردة مباشرة، بل يكون صاحب هذه الفرية متهمًا بالردة، ولا تتحول هذه التهمة في حقه إلى إدانة، إلا إذا تحققت شروط التكفير وانتفت موانعه، وقضى بذلك ذو سلطان أو أمير مطاع، ولا مدخل في ذلك للعامة وأشباه العامة، بل يناط الحكم بأولي الأمر من العلماء والأمراء؛ لأن الحكم بالردة تسبقه استتابة وإزالة شبهة وإقامة حجة.
وخير ما يقال في هؤلاء عند الالتباس والاختلاط: ينقلبون إلى ربهم منقلبًا واحدًا، ويصدورن مصادر شتى، ويبعثون يوم القيامة على نياتهم.
• أما قولك هل يصلح في الحوارات السياسية التراشق بالتكفير بين المتحاورين؟ فالجواب البدهي عن ذلك أن التراشق بالتكفير لا ينبغي أن يكون في أي حوارات، سياسية كانت أو عقدية؛ فقد تتعامل مع أتباع ملل أخرى لا يؤمنون بالله ربًّا، ولا بالإسلام دينًا، ولا بمحمد نبيًّا ورسولًا، ممن لا يتمارى أحد في كفرهم، ومع هذا فلا يجمل في الحوار معهم التراشق بالتكفير والتنابز بالألقاب؛ لأن مقام الدعوة مقام يقتضي الرفق بالمدعوين، والحكمة والموعظة الحسنة في دعوتهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، والتنزل مع المخاطب منهم عند محاورته؛ حتى تقول لعبدة الأوثان: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وهذه غاية الإنصاف والاعتدال والأدب في الجدال، أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: إن أحدنا لابد أن يكون على هدى، والآخر لابد أن يكون على ضلال، ثم يَدَع تحديد المهتدي منهما والضال، ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال!
يقول الآلوسي رحمه الله: «التعريض أبلغ من التصريح، وأوصل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة، مع قلة شغب الخصم وفَلِّ شوكته بالـهُوَيْنا»(8).
أو تقول: {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [سبأ: 25]، فيُعلم الله نبيَّه أدب المناظرة في مجادلة المشركين، فوجهه أن يضيف الإجرام إلى النفس، ويقول في حقهم: {وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ تفاديًا للإغضاب المانع من الفهم، الأمر الذي يحمل الخصم إلى مواصلة الحوار، والبحث من خلاله عن الصواب.
يقول الزمخشري رحمه الله في «الكشاف»: «هذا أدخل في الإنصاف، وأبلغ في الإخبات، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، والعمل إلى المخاطبين»(9).
وأهل السنة يفرقون بين القول وقائله، وبين الفعل وفاعله؛ فقد يطلقون على قول أو فعل أنه قول كفري أو فعل كفري، ولكن لا يطلقون القول بتكفير قائله أو فاعله إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع. فالعلمانية مثلًا فلسفة تدعو إلى الفصل بين الدين والحياة وإقصائه عن هداية البشر في تدبير شئونهم السياسية وأمورهم الحياتية، ولا شكَّ أنها بهذا المعنى نقيضُ الإيمان الذي يقوم على الإخبات المطلق لله جل جلاله، والاتباع المطلق لرسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به من الدين عقيدة وشريعة، ولكن الذين ينتسبون إلى هذه الراية أخلاط من الناس، ومنهم من يجهل حقيقة العلمانية، أو يجهل حقيقة الإسلام، وينبغي أن تكون معركتنا مع الجهالة لإزالتها، وإن يكون همنا استفاضة البلاغ، وإقامة الحجة، وإزالة الشبهات، ودفع التوهمات، بدلًا من الاشتغال بإجراء الأحكام على معينين، والتراشق بالتكفير مع الآخرين.
• وأما سؤالك حول الحدِّ الفاصل بين المعارضة المشروعة والعنف والإرهاب والانقلاب على الشرعية؟
فالجواب عن ذلك أن الحق في المخالفة حقٌّ مكفول، بدءًا من المخالفة في أصل الدين لغير المسلمين، أو المخالفة فيما دون ذلك للمسلمين، ولكن يبدأ التثريب عندما يبدأ التسابُّ والتشاتم والتخوض في الأعراض، ومن باب أولى عندما يبدأ التخريب واستباحة المرافق العامة والخاصة، وقطع الطرق، وترويع السابلة، وتدمير البنية الأساسية للمجتمع.
إن المرافق العامة لا علاقة لها بالخصومات السياسية، فهي ليست ملكًا لأحد من الخصوم السياسيين، بل هي ملك عام للأمة، وتخريبها نكاية في خصوم سياسيين بغي يسخطه الله ورسوله، وحرابة وفساد في الأرض يستوجبُ به أصحابَه عقوبة البغاة والمحاربين، ولا توجد دولة في العالم تقرُّ التخريب والاستباحة المجنونة وسيلةً مشروعة للتعبير عن الرأي، أو تعتد بها صورة مشروعة من صور التظاهر.
ويبلغ الفحش منتهاه عندما يبدأ الاستقواء بالخارج، واستعداء قوى الاستكبار العالمية على بني جلدته، وأبناء ملته وأمته، وشركائه في الوطن الواحد.
إننا نؤكد على أن كل صور العنف والتخريب مجرَّمة ومدانة، أيًّا كانت هوية القائم بها الدينية أو السياسية، وأن حفظ الأمن والاستقرار والضرب على أيدي العابثين بأمن البلاد واستقرارها مسئولية المؤسسات الأمنية، ثم يأتي دور آحاد الناس بعد ذلك في المقام الثاني، في صورة الداعم لهذه الجهود والمنسق معها، وليس أن يحل محلها ولا أن يكون بديلًا منها؛ حتى تلتقي الجهود الحكومية والشعبية في المحافظة على مؤسسات الدولة، ومن بينها وعلى رأسها مؤسسة الرئاسة، وإلا تشرذم المجتمع، وتحوَّل إلى شيعٍ وأحزاب يبغي بعضُها على بعض؛ فقد يُرتكب في فوضى ساعةٍ من المظالم ما لا يُرتكب في جَوْر سنين! وإن القول بخلاف ذلك انقلابٌ على الشرعية وخروج عن الجادة، والحديث موصول وله بقية. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________________
( 1) «سيرة عمر بن عبد العزيز» لعبد الله بن الحكم ص57.
(2) «مجموع الفتاوى» (19/ 218).
(3) أخرجه مسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «تأمير الإمام الأمراء على البعوث» حديث (1731).
(4) «إعلام الموقعين» ص39.
(5) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (10/116) حديث (20135).
(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (1/ 404) حديث (3839) ، والترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في اللعنة» حديث (1977) ، والحاكم في «مستدركه» (1/ 57) حديث (29) ، وابن حبان في «صحيحه» (1/ 421) حديث (192). وقال الترمذي: «حديث حسن»، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا بهؤلاء الرواة عن آخرهم ثم لم يخرجاه».
(7) أخرجه الدارمي في «المقدمة» باب «من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع» حديث (135).
(8) «روح المعاني» (22/140).
(9) «الكشاف» (3/591).