معالم الرشد في العمل الدعوي العام(1)

هل الدخول في كل هذه الصراعات والمواجهات مع الجماعات والسياسات شرطٌ لدخول الجنة؟ ألا يوجد من عباد الله من يقبلُ الله صلاتَهم وصيامهم ويدخلهم في رحمته وإن لم يُلقوا بأنفسهم في شيء من هذه المهالك؟ ألا يوجد تديُّن هادئٌ يضمن للناس السلامةَ في دينهم ولا يدخلهم في هذه المحارِق؟ هل قُدِّر للمتدين أن يكون دائمَ التوجُّس، ودائمَ القلق، ودائمَ التعرُّض لسياط الآخرين، سواء أكانوا من داخل معسكر التدين أم من خارجه؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الله تعالى قد قسَم الأعمال كما قسَم الأرزاق، فإذا فُتح عليك في باب العمل الدعويِّ العام مع فصيلٍ من هذه الفصائل، فأحسن القيامَ بهذه العبودية، واصبر على ما يُصيبك فيها، واحتسب أجرَك في ذلك على الله ، وضع نُصبَ عينيك يرعاك اللهُ هذه المعالم:
• لا تجعل من انتسابك إلى فصيل من هذه الفصائل الدعوية مَعقِدَ ولاءٍ وبراءٍ، فإنَّ مَعقِدَ الولاء والبراء هو الإسلام بمفهومه العامِّ، ولا يجوز سجنُه في شرنقة حزبية، أو علاقة تنطيمية.
• لا يكن همُّك الاشتغالَ بتصنيف الناس، وتبديع هذا وتفسيق ذاك، في مثل هذا الواقع الذي يموجُ بتضارب الأهواء، وتشعب الآراء.
• اعلم أن تألُّفَ العصاة على التوبة واستحياءَهم بها أحبُّ إلى الله من إهلاكهم بالإصرار والمحادَّة، فينبغي الرفقُ في الإنكار عليهم، وتجنُّب الاستعلائية في التعامل معهم، أو تجاهل انتسابهم إلى جماعة المسلمين ما امتهد سبيل إلى ذلك، لاسيما في أزمنة الفِتَن وغربة الدين وشيوع الجهالة وقلَّة العلم بآثار الرسالة، اللهم إلا المعاندين والذين ظُلِموا منهم، وأولى من ذلك تجنُّب الاستعلائية في التعامُل على المتدينين من مدارس أو كيانات دعوية أخرى.
• احرص على عدم نقل الاختلافات الدعوية في المسائل الاجتهادية إلى المنابر العامة ما أمكن؛ فإن هذا أعونُ على احتواء النزاع، وتقبل أطرافه للحق، ورجوعهم إلى جادته؛ لأن الأصل أن تحلَّ مثل هذه النزاعات داخليًّا ومن خلال الآليات والوسائط الإسلامية.
• تجنَّب الاستبدادَ بالرأي، واحرص على إشاعةِ ثقافة إنصافِ المخالف في الرؤى والأفكار، وتقبَّل ما كان من آرائه موافقًا للحقِّ، وانصحه فيما كان مخالفًا له، مع تغليب رُوح الترفُّق والمواساة على التصلُّب والمجافاة.
• تجنَّب التشنيع على من عُرِف بالفضل والسابقة من أهل العلم بسبب ما قد يصدُر عنهم، أو ينسب إليهم من زلَّات، ولا يتنافى هذا مع اطِّراح زلاتهم التي عُرف أنها من قبيل الزلل البحت والخطأ المحض.
• تكلَّف من الأعمال ما تُطِيق، ولا تعرِّض نفسك لما لا تُطيقه من البلاء، فإن المؤمِن لا ينبغي له أن يذلَّ نفسه بتعريضها لما لا طاقةَ له من البلاء.
• اعلم أن الحراكَ السياسيَّ العام لأهل الدين في المجتمعات ذات التنوع الثقافي ينبغي أن يكون حراكًا إسلاميًّا وليس حراكًا حزبيًّا، ولا يصلح دخول أهل الدين فيه وهم أوزاعُ متفرقون، لا يضبطهم ضابطٌ، ولا يجمع شتاتُ مواقفهم جامعٌ، فإذا لم يتسَنَّ الانطلاقُ في مسيرةٍ واحدة فلا أقلَّ من أن يكون حراكُهم العامُّ عن رضًا وتشاورٍ من الجميع من خلال التحاور والتنسيق.
هذه بعضُ معالم الرُّشد في العمل الدعوي العام، فإن وجدت شُحًّا مطاعًا وهوى متبعًا ودُنيَا مؤثرةً وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه فيسعك اجتنابُ المشهد العام(1). والعكوفُ على إصلاح الذات، والاهتمامُ بالأهلِ والأقربين، إلى أن تنكشف الغمَّة، وتنقضي الفتنة. والله تعالى أعلى وأعلم.

_______________________

(1) فقد أخرج الترمذي في كتاب «تفسير القرآن» باب «ومن سورة المائدة» حديث (3058) عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية قال: أية آية؟ قلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى} [المائدة: 105]. قال: أمَا والله لقد سألت عنها خبيرًا؛ سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْـمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ الْـمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْـجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ». وقال الترمذي: «حديث حسن».

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend