محرقة غزة

حفظ اللهُ تعالى شيخَنا الجليل بحفظه: كيف يقوم الـمُسلِم بواجبه الآن في ظلِّ المذابح التي يتعرَّض لها إخوانُنا في غزة؟ أريد إجابةً واضحة يا شيخنا حول تولِّي الكافرين الثَّوابت والمتغيرات فيها الآن؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعد:
فقد سأل سائلٌ عن المحرقة التي تجري وقائعُها الآن في غزة، وعما يجب على الأُمَّة تجاهها، وعن الثَّوابت والمتغيرت في هذه الكارثة المروِّعة التي تُقلق الإيمان في القلوب.
وحقٌّ له أن يتساءل هذا التساؤل، وقد اختلطت الأوراق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، ولسان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقول: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا!
وأوَّلُ ما نؤكِّد عليه في هذا المقام أن نجدِّد يقيننا بأن يدَ الله تعمل في هذا الوجود! وأن أعمالَ الله جلَّ وعلا لا تنفكُّ عن حكمته، أدرك ذلك من أدرك، وأَفِكَ عن ذلك من أفك!
فإذا رأينا في حياتنا ما يروعنا أو ما يدهشنا أو ما يخرج بنا عن مألوفِ توقُّعاتِنا فيَنْبَغي أن نرجع في ذلك أوَّلَ ما نرجع إلى أنفسنا، وأن نذكر دائمًا قولَه تعالى للمؤمنين يوم أُحُدٍ: ﴿قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].
إننا غضاب! وإن الأُمَّةَ كلَّها لا شكَّ غاضبة ومتغيظة! بل تكاد تَـمِيز من الغيظ، ولكن يقيننا أن اللهَ أشدُّ غضبًا! إننا نغار على هذه الحرمات المستباحة والدماء المسكوبة، ولكن يقيننا أن اللهَ أغيرُ! فلا أحدَ أغيرُ من الله(1)! وإن ما يجري إنما هو على سمعه وبصره لحكمةٍ عليا يُريدها، ستكشف عنها الأيَّام والليالي، فلا نقنط من رحمة الله، ولا نيأس من رَوْحه، ولا يكون في صدرنا حرج من حكمته وتدبيره!
لا يَخْفى أن قضيَّةَ غزة شأنها شأن سائر قضايا الأُمَّة قضيَّة إسلاميَّة، تدور في فلكها وتحاكم إلى مرجعيتها، وإن كره هذا التوصيف من كره، وحصر به صدر من حصر، فهي الحقيقة التي لا تقلُّ في بداهتها عن سائر حقائق الإسلام العظام، وإن اللبوس المستورد الذي أُلبِسته قضيَّة فلسطين إن طوعًا وإن كرهًا عبر هذه الحِقَب المنصرمة تضليل للأمة، وتزييف لوعيها، وتشتيت لسيرها، وإغراء لخصومها بها، وإن لم يقصد إلى ذلك بعض من تولَّوا كبر ذلك وتورَّطوا فيه!
إن إسلاميَّة القضيَّة لا تعني إنكارَ البُعْد القومي والوطني والإنساني لهذه القضيَّة بالنِّسبة لبعض الأطراف، كما لا تعني بالضَّرورة شنَّ الغارة على أصحاب النَّفَس الإنساني أو القومي أو الوطني، بل يتعيَّن الإفادة من جهودهم واستثمار طاقاتهم مع توجيهها، وبذل النَّصيحة لأصحابها ما امتُهد سبيلٌ إلى ذلك، وأدنى ذلك ألا تكون سيوفُنا على أحدٍ منهم، وألا نسمح أن تتحوَّل المواجهةُ مع العدوِّ الـمُتَّفق على عداوته للأمة والملة إلى مواجهاتٍ داخل البيت الفلسطينيِّ أو العربي أو الإسلامي بحالٍ من الأحوال!
إننا إذا استنطقنا تراثَنا الإسلاميَّ فيما يجب أن يكونَ عليه موقف الأُمَّة تجاه هذه المحنة سيجيبنا بجلاءٍ إنه إذا نزل العدوُّ بمحلةِ قومٍ من الـمُسلِمين تعيَّن على أهل هذه المحلَّة المُستباحة جهادُ الدَّفْع عن أنفسهم، وإن هذا الجهاد يتعيَّن على أهلها جميعًا رجالًا ونساءً، شيبةً وشبانًا، عبيدًا وأحرارًا، فإن كانت بهم طاقةٌ لدفع عدوِّهم فقد قُضي الأمر، وإلا كان على بقيَّة الأُمَّة إقدارُهم على ذلك وإعانتهم عليه بكلِّ أنواع الدعم: عسكريًّا وماليًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا.
ويبدأ الوجوبُ بدول الجوار، ثم يمتدُّ ليشمل الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، إلى أن يَعُمَّ الجهادُ دار الإسلام قاطبةً.
لا يَخْفى أن القدرةَ شرطٌ في التَّكْليف بشرائع الإسلام كافةً، فوجوب الجهاد بالنَّفس إنما يكون إذا تمكَّنت الأُمَّة من ذلك ولم تُحصر دونه، سواءٌ أكان ذلك الحصار بيدِ عدوٍّ شانئٍ، أم بيد جارٍ أو قريب ظالمٍ لنفسه قد أحاطت به خطيئته، أو مجتهد مخطئ قد أضلَّته الحسابات الخاطئة والرهانات الخاسرة!
ولا يُكلِّف اللهُ نفسًا إلا وسعها(2)، وقد عذر اللهُ في الجهاد بالنَّفس الضَّعَفة والمحصورين والذين لا يجدون ما ينفقون، والذين لا يجدون ما يحملون إلى الجهاد عليه، إذا نصحوا لله ورسوله(3)!
إن الميسورَ لا يسقط بالمعسور، فإذا كانت أبوابُ الجهاد بالنَّفس قد غُلِّقت أبوابُها في وجه الأُمَّة فتبقى بقيَّة المحاور الجهاديَّة الأخرى، ولا يزال كثيرٌ منها في الجملة متاحًا ومقدورًا بحمد الله عز وجل ، ومنها الجهادُ بالمال، والجهاد في المعتركات السِّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والإعلاميَّة، والدعويَّة، وكثيرٌ منها لا سبيل للحكومات إليه، ولا يجوز أن نفوِّت المتاحَ تطلُّعًا إلى غير المتاح، فيفوتنا الجميع: المتاح وغير المتاح!
إن خيارَ الدَّفْع والمقاومة، وإعداد العُدَّة لذلك لا يلغي الانفتاحَ على الخيارات الأخرى، والاستفادة من أصحابها، وتعبئة جهودهم لصالح القضيَّة وغاياتها الكُلِّيَّة، وأدنى ذلك ألا ننشغل بمناوشاتٍ معهم تُستفرغ فيها الطاقات، وتَسْتَعِر فيها العداوات، ولا يفيد منها في النِّهاية إلا خصوم الملة وأعداء الأُمَّة.
إننا لسنا بصدد تقويمِ موقفِ هذا الفصيل أو ذاك، فلذلك ميقاته المناسب زمانًا ومكانًا، وإنما الذي نتداعى جميعًا له ونتخندق جميعًا في خندقه في هذه اللَّحظة التاريخيَّة الراهنة هو حقُّ النصرة العام، الذي تستصرخنا به دماء ما يزيد على ألف شهيدٍ! وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمصابين! ولا تزال أرتال الشهداء والمنكوبين تَتْرَى وتتتابع! وجُلُّ هؤلاء الضحايا والمنكوبين من الذُّرِّيَّة الضُّعَفاء والعُزَّل الأبرياء.
ولا علاقة لهذا الحقِّ المعلوم والمحتوم بتباين الرؤى حول موقف حماسٍ أو غيرها من بقيَّة الفصائل الفلسطينيَّة سياسيًّا أو جهاديًّا أو دعويًّا، هَبْ لو أن غزةَ كانت تحت قيادةِ فصيلٍ آخر، ولو كان شيوعيًّا، أو كانت تحت قيادة السُّلطة الفلسطينيَّة ذاتها، ثم تعرَّضت لمثل هذا البركان المدمِّر، هل كان يتسنَّى لنا خِذلان الأبرياء والقعود عن واجب نصرتهم تعلُّلًا بخلافنا مع هذا الفصيل أو ذاك؟! أم أن الذي يفعل ذلك سيضع نفسَه خارج الحسِّ الإسلامي والقومي والوطني كافةً؟! وقبل ذلك سيجعل نفسَه موضعَ لعنة الرَّبِّ جلَّ وعلا ونقمته وسخطه!
إن التَّداعي في هذه المرحلة ليس لنُصرة فصيلٍ فلسطينيٍّ على آخر، وإنما هو لحَقْن دماء العُزَّل الأبرياء، ودفع الصائل عن الذُّرِّيَّة الضُّعفاء، وذلك واجبٌ يَنْبَغي أن تلتقي عليه جميعُ الفصائل الفلسطينيَّة، وكلُّ من بقي فيه بقيَّةٌ من مروءة أو كرامة أو إنسانيَّة على مستوى البشريَّة!
إن للنُّظُم حساباتِها التي تُخطئ فيها أو تصيب، وللأمة خياراتها التي تنبثق من إيمانها بربِّها ويقينها بوعده، ويرسمها لها أهلُ الحلِّ والعَقْد فيها من علماء وخبراء، وإن لم تُقِمِ النُّظُم حساباتِها على أساسٍ من دينها فلا أقلَّ من ألا تجعل من قمع خيارات شعوبها أكبر همِّها ومبلغ عِلْمها، بل إن التَّوفيقَ أن تُفيد من مثل هذه الخيارات في إدارة الموقف السِّياسيِّ، فتكون الحركاتُ الشعبية ردءًا للحكومات في معتركها السياسيِّ، وورقةً من الأوراق المهمة التي تُحقِّق بها مكاسبَ وإنجازاتٍ في إدارة مواقفها السِّياسيَّة.
إن محرقةَ غزة لم تكن بأُولى المحارق في المشهد الفلسطينيِّ ولن تكون آخرَها! إن الطَّريقَ طويلٌ وممتدٌّ وإن تَغافَل عن ذلك مَن تغافل، أو أَفِكَ عنه عمدًا وقصدًا من أَفِك!
ويَنْبَغي أن نَعُدَّ أنفُسَنا لصراعٍ طويل ومعاناة أطول! ومن ظنَّ أنه بالمعاهدات سيطوى بِساط الجرائم الإسرائيليَّة فقد تجاهل أبسط حقائق الشَّرع والتاريخ! إن مسلسلَ المذابح الإسرائيلية على الساحة الفلسطينيَّة لا يزال محفورًا في ذاكرة الأمَّة، ومن قبل ذلك لم يزل مسطورًا في كتاب القدر الأعلى، ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 52]!
وإن هذه المذابحَ قد وُجِدَت قبل أن يبزغ فجرُ حماسٍ، أو أن يكونَ لها وجودٌ فاعلٌ في المشهد الفلسطينيِّ، فضلًا عن أن تكونَ على رأس حكومة منتخبةٍ تقول ديانة الديموقراطيين إنها شرعيَّة مائة في المائة!
لو انتقلنا إلى المشهد اليهوديِّ وتأمَّلنا في الـجُدُرِ التي يُقاتل خلفها هؤلاء لألفينا عجبًا! إن القومَ كما يقول ربِّي جلَّ وعلا: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ [الحشر: 14].
ولا تزال نفسيَّة المقاتلة من وراء الجُدُر هي التي تحكم تفكيرَ القوم وتُوجِّه استراتيجياتهم العسكرية والسِّياسيَّة إلى يومنا هذا، فبدءًا من يهود بني قُرَيظة الذين ظاهروا المشركين يوم الأحزاب من صَيَاصِيهم، مرورًا بمن ظنُّوا أنهم مانِعتُهم حصونهم من الله، وانتهاءً بخط بارليف، ثم بالجدار العازل في فلسطين، وقريب منه ما يُقام من جُدُرٍ حول مناطق السُّنَّة في بلاد الرَّافدين في واقعنا المعاصر، ثم بالجدر السِّياسيَّة المتمثِّلة في الموقف الأمريكيِّ واستخدامه لحقِّ الفيتو لمنع أيِّ إدانةٍ لحليفتهم وربيبتهم، حتى استخدم لصالحها منذ عام 1982 أكثر من 32 مرَّة، وهو أكثر من مجموع استخدام هذا الحقِّ من قبل من يملكونه من سائر الدُّوَل الأخرى مجتمعةً! ثم حبال الدعم الاقتصادي والاستراتيجيِّ من قِبَل قوى الاستكبار مجتمعةً، ثم جُدُر الشهوات والشُّبُهات التي تُروِّج في فضاءات هذه الأُمَّة وتُضلِّل مسعاها بأيدي بعض المارقين من أبنائها.
نسوق كلَّ هذا لندرك من خلاله شراسةَ المواجهة وفداحة الأثمان التي تُبذل لمواجهتها! إن بعضَ هذه الجدر والحبال الممتدَّة مع القوم يصطنعها بعضُ المارقين على دِينهم والآبقين على ربِّهم في هذه الأمة! من ذلك جُدُر الشُّبُهات والشهوات، وجُدُر الذُّنوب والمعاصي، التي تُوهن صلة هذه الأُمَّة بربِّها، وتجعل لشياطين الإنس والجنِّ سلطانًا عليها.
فهلَّا آن لنا أن نهدم هذه الجُدُر؟ وأن نقطع هذه الحبال، حتى لا نُظاهر عدوَّنا على أنفسنا، ونُعينه بأيدينا على عداوتنا وقَهْرنا؟!
لا أحسب أن مِن المناسب استهلاكَ الطاقات في شنِّ الغارة على القيادات السِّياسيَّة، ورفع العقائر بتخوينها، فإن هذا مما يزيد المشهدَ سوءًا والمأساة تفاقمًا، وسيحملها على المزيد من التترُّس بأعدائها، والانحياز النهائيِّ إلى معسكراتهم وقد صاروا لها عتادها وعُدَّتها وحاضرها وغدها، بعد أن نَفَضُوا أيديهم من شعوبهم إلى الأبد!
وإنما خيرٌ من ذلك الاشتغال بالنَّافع من القول والعمل، وتفعيل الممكن والمتاح، وصِدْق اللَّجْء والضراعة إلى قيوم الأرض والسموات!
وفرقٌ بين أن تُمارس الأُمَّة من وسائل الضَّغط السياسيِّ والسلمي ما يُقدِّم رسالةً واضحة ومدويَّةً إلى العالم أجمع، وبين أن نمزج ذلك بالتقاذف بالتخوين، والتراشق بتهم العمالة والتواطؤ!
إن واجبَ الأُمَّة يتمثَّل فيما يلي:
• استثمار هذه المحنة لتوحيد الشُّعور الإسلاميِّ العام في مشارق الأرض ومغاربها، وأبسطُ صُوَرِه إحياءُ سنة قنوت النَّوازل في الصَّلوات الخمس، واستدامة ذلك إلى أن يكشف الله هذه الغمَّة ويرفع هذا البلاء! فما أطيب التقاءَ قلوب الـمُسلِمين في المشارق والمغارب حول هذا المشهد الرَّبَّاني الجميل! وما أجمل أن تُدركَ الأُمَّة من خلاله أنه لا يسوق الخيرَ إلا اللهُ ولا يكشف السُّوء إلا الله!
• استثمار هذه المحنة في إحياء الرَّبَّانيَّة في هذه الأمة، وإشاعة التَّوبة في أرجائها، يقينًا منَّا أنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولم يُكشَف إلا بتوبةٍ!
• استثمار هذه المحنة في إحياء رُوح الأُمَّة الواحدة، وإشاعة فقه الائتلاف بين فصائلها وقادة جهادها ودعوتها، يقينًا منَّا أن التَّنازع بريدُ الفشل، وأن الاعتصامَ بحبل الله جميعًا أول الطَّريق إلى التمكين!
• استثمار هذه المحنة في إحياء فريضة الجهاد بضوابطه، وإعادة الاعتبار لمفهومه الصَّحيح بعد أن صارت هذه الكلمة سيِّئةَ السمعة في جُلِّ الأوساط السِّياسيَّة والإعلاميَّة! بل وفي بعض الأوساط الدعويَّة؛ بتأثيرٍ من آلة الإعلام الغربيِّ بعد أحداث سبتمبر المشئومة!
• استثمار هذه المحنة في إحياء الدَّعوة إلى تحكيم الشَّريعة، وإعادة الاعتبار إليها بعد أن كادت أن تُدرَج في الأكفان بعد أحداث المنصَّة! وصار الحديثُ عنها أو الإشارةُ إليها مما يَصِمُ أصحابَه بالتَّطرُّف والإرهاب! وكاد أن يستقرَّ هذا المفهوم في كثيرٍ من الأوساط، ولا أدل على ذلك من أنك لو استعرضتَ مفردات الخطاب الإسلاميِّ بعد هذه الأحداث المشئومة لهالَكَ هذا الانحسار المروِّع والتراجع الكبير لهذه القضيَّة في جُلِّ أدبياتنا الدعويَّة!
• استثمار هذه المحنة في إحياء واستمرار خيار المقاومة، والرَّفْض للمشروع الصهيونيِّ بعد أن كادت الاتِّفاقيات والمعاهدات والمبادرات العربيَّة وغير العربيَّة تقضي على هذه الخيار، وتُقدِّم التَّطْبيع على أنه الخيارُ الأوحد والقدر المحتوم!
• استثمار هذه المحنة في إحياء سياسة تفعيل الممكن والمتاح من الوسائل الدعويَّة والجهاديَّة، وإضفاء شيءٍ من الواقعيَّة على الخطاب الدعويِّ، بدلًا من التَّحليق في فضاءات العواطف الجيَّاشة، والاستغناء بها عن العمل الجادِّ والبرامج النَّافعة!
• استثمار هذه المحنة في إحياء التَّواصل مع الجاليات الـمُسلِمة المقيمة خارج ديار الإسلام، وتفعيل دورهم في نصرة قضايا الأُمَّة وربطهم بها، لاسيَّما بعد تنامي الدَّعوة إلى فصل هذه الجاليات عن جذور أمتها في الشَّرق، وصرف اهتمامهم إلى قضاياها المحلِّيَّة فحسب، وتأسيس منطلقاتٍ جديدة لها تأخذ في اعتبارها خصوصيَّةَ الزَّمان والمكان، وتدعو إلى تجديدٍ غير منضبط، وإلى اندماج غير واعٍ في بوتقةِ هذه المجتمعات بخيرها وشرِّها، حلوها ومُرِّها!
• إن هذه الجاليات بحكم إقامتها في الخارج تملك الكثيرَ مما يُمكن أن تُقدِّمَه إلى قضايا أمَّتها العادلة، فالمساحة المتاحة لها للحركة والتعبير مساحة واسعة نسبيًّا إذا ما قورنت بمثيلاتها داخل ديار الإسلام، وفهمهم لثقافات هذه المجتمعات يجعلهم أقدر على الوصول إليها، والتَّعامل الإيجابي معها، والتأثير المباشر على بعض قراراتها، إن كتابة ملايين الرَّسائل الإلكترونية والعادية، وتنظيم المسيرات الاحتجاجية، والتَّواصل المباشر مع صناع القرار وقنوات الإعلام وغيرها من آليات الضَّغط ووسائل التعبير المتاحة في هذه المجتمعات من الدور الذي لا يُمكن تجاهله في عالمنا المعاصر، وليس من التَّوفيق أن نصادر شرعيته من خلال فتاوى مشرقية، إذا كان لها ما يفسرها في ضوء ملابسات الشَّرق وتعقيداته وموروثاته، فليس لها ما يفسرها في هذا الواقع الجديد، وقد نظمتها الدساتير والقوانين، وأصبحت من الآليات المعتادة للتَّعْبير والتأثير في هذه المجتمعات!
هذا بعض ما جاشت به النَّفس من زفرات ومن تأملات! وهنا يمسك القلم شباته، ولا تزال أوراق القضيَّة مفتوحة، والكتابة عنها مستمرَّة بإذن الله، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السَّبيل.

__________

(1) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «التوحيد» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا شخص أغير من الله» حديث (7416)، ومسلم في كتاب «اللعان» حديث (1499)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه  قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ والله لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، واللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ الله حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْـمُبَشِّرِينَ وَالْـمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْـمِدْحَةُ مِنَ الله وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْـجَنَّةَ».

(2) قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]

(3) وشاهد ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *  وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ [التوبة: 91، 92]

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend