برجاء من فضيلتكم توضيحُ السبيل الذي لابد أن نسير عليه اليوم في مصر، فنحن مُؤيِّدُون لشرعية الرئيس وترى حضرتكم ما يحدث لنا من قتل واعتقال وانتهاكات لا حصر لها. فما السبيل المرجو منا نحن المؤيدين هل نستمرُّ ونصبر أم نتراجع ونرضى بالأمر الواقع؟ فنحن نحيا في قلق مستمرٍّ في بيوتنا وأثناء السير بالطرق مما يفعل هؤلاء الظلمة. فنرجو من فضيلتكم توضيحُ الأمر لنا لعلَّنا مخطئين في استمرارنا بالدفاع. وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا بديل يا بني من الثبات على مقاومة الظلم، مع التجديد في وسائل هذه المقاومة وآلياتها، بما تتهيأ أسبابه، وتتوافر أدواته، وبما لا يعرض المحتسبين لمزيد من الاستباحة المجنونة لدمائهم على هذا النحو الذي شاهده العالم أجمع، إلا أشاوسة الإعلام في وطننا المكلوم، وبقدرة قادر، أو بسحر ساحر، تحولت الضحايا على أيديهم، ومن خلال قنواتهم إلى قتلة وجلادين، وتحول القتلة ومنتهكو حرمة الموتى بحرق جثثهم إلى حمائم سلام بريئة معتدى عليها!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»(1).
ومن ناحية أخرى فليس بيننا الآن يا بنيَّ نبيٌّ معصوم، يؤخذ منه فلا يرد عليه، ولكن بقيت لنا الشورى، وهي من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومجالها التراتيب البشرية وخياراتها المشروعة، وما اشتور قوم في أمر قط إلا هدوا إلى أرشد أمرهم(2).
فلا بديل من إحياء فريضة التشاوُر، فإن البرامج التفصيلية والخطط العملية لتجاوز المحنة اجتهادٌ بشريٌّ يستهدي بنور الوحي، وللنظر البشري فيه مجالات رحبة للاجتهاد والإبداع، فهو من جنسِ مسائل السياسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال؛ فلا بديل من أن يجتمع قادة المشهد الدعوى لتدارس الوضع الراهن، واقتراح السبل المناسبة والمتاحة للمخرج من هذه الأزمة.
إن هذه السبل يا بني ليست مائدةً تتنزل من السماء، ولكن يفتح الله بها على من جلسوا للتشاور بقلوب يملؤها النقاء والصفاء، والرغبة الصادقة في التعاضد والتكاتف، لتجاوز هذه المحنة، على هدي من نور الوحي المعصوم.
ومن ناحية أخرى فلا بديل كذلك من تفعيل آليات المحاسبة داخل الجماعات والأحزاب الإسلامية، والتمييز بين فقه الدعوة وفقه الدولة، أو بين مقام العمل الدعوي ومقام العمل السياسي، فالإطار الدعوي تحكمه حلية طالب العلم، وحسن أدبه في التعامل مع شيخه، حتى لا يجمل أن يقول طالب العلم لشيخه في مسألة من المسائل: لقد أفتى فلان بخلاف ما تقول. ولا شكَّ أن هذه الأخيرة لو نقلت إلى الشأن السياسي لكانت كارثة، ولأتت على بنيانه من القواعد، ولا يجمل أن يدعو أهل الدين إلى التشاور، ومحاسبة القادة، وينكرون على غيرهم أساليب القمع والمصادرة للآخرين، ثم يمارسون هذه المصادرة، والقمع الحسي أو المعنوي داخل مؤسساتهم الدعوية، وأحزابهم الإسلامية.
فانشط يا بنيَّ مع من تُحِب لتفعيل هذه الخطوات، وأرجو أن ترى بركتها نورًا يُضيء به المشهد الدعوي من أقصاه إلى أقصاه، ولعلَّ من بركات هذه المحنة ما أدت إليه من إحياء الولاء الإسلامي، وتوثيق عُرى الأخوة الإيمانية، وإشعار أهل الدين جميعًا بوحدة أقدارهم آمالًا وآلامًا، وعسى أن يكون لذلك ما بعده بإذن الله.
وفَّق الله الجميع لما يحبُّه ويرضاه، وحملنا جميعًا في أحمد الأمور عنده وأجملها عاقبة. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «إذا لم تستحي» حديث (6120) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في «الأدب» ص149 حديث (46) من قول الحسن رحمه الله.