شيخنا ووالدنا الحبيب. هنا في سوريا انتشرت التجارة في المخدرات، وكثرت الشقق المخصصة لممارسة الفاحشة، ويأتينا من هؤلاء المجرمين من الرجال والنساء، ولا ندري كيف نتعامل معهم، وكيف نحمي المجتمع من شرِّهم وإفسادهم.
علمًا بأن أغلبهم يعمل مع النظام، وجُلُّ اجتهادهم على إيقاع أفراد الجيش الحرِّ في تعاطي المخدرات أو الوقوع في الفاحشة؛ حتى يُفسدوهم، وحتى يجمعوا منهم تحت وطأة الشهوة من المعلومات ما ينتفع به النظام الأَسَديُّ في معركته ضد شعبه، وكذلك يصعب علينا سجنهم مدة طويلة، خاصة النساء، فعددهم كبير، وسجنهم قد يجرُّنا إلى معاركَ جانبية مع أهاليهم.
فنرجو أن تُفيدونا بما تبرأ به ذمَّتُنا أمام الله في التعامل مع هؤلاء، كما نرجو شيئًا من التفصيل كما اعتدنا منكم. وفقكم الله لما فيه رضاه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن القاعدة في هذا هي حَسْم المنكر بما ينحسم به من الكلمة إلى السيف، وأن من لم يندفع فساده في الأرض إلا بالقتل قُتل، وذلك بعد استيفاء الضوابط القضائية كافة، شريطة ألا يُؤدِّي هذا إلى مفسدةٍ أعظم؛ فإن مبنى الشريعة كما لا يخفى على تحصيل خير الخيرين ودفع شر الشرين.
وفي مثل ظروفكم تنقلب جميع العقوبات إلى عقوبات تعزيرية فيما يظهر؛ لانعدام القدرة على إقامتها في الوقت الراهن بغير مفسدة ظاهرة راجحة؛ لأن إقامةَ الحدود تحتاج إلى مَنَعةِ دولةٍ، وإلى شوكة نظام وسلطان، ولا يتسنى للمجاهدين في مرحلة الغزو إقامتها، ولما تستقر لهم دولة، أو ينتظم لهم كيان جامع.
ولما كان الميسور لا يسقط بالمعسور، فما أمكن إقامته من العقوبات مما يُحقِّق مقاصد العقوبة الشرعية من الزَّجْر العام والزجر الخاص، لا يسقط بالمعسور من إقامة الحدود في الوقت الراهن.
قال ابن القيم: «فصل: النهي عن قطع الأيدي في الغزو، المثال الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تُقطَع الأيدي في الغزو، رواه أبو داود. فهذا حدٌّ من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامتِه في الغزو، خشيةَ أن يترتَّب عليه ما هو أبغضُ إلى الله مِن تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا، كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم، وقد نصَّ أحمد وإسحاق بن راهُوَيْهِ والأوزاعي وغيرُهم من علماء الإسلام على أن الحدودَ لا تُقام على أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في «مختصره» فقال: لا يُقام الحدُّ على مسلمٍ في أرض العدو، وقد أُتي بُسْر بن أبي أرطاةَ برجلٍ من الغَزَاة قد سرق مِجَنَّة، فقال: لولا أني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزْوِ» لقطعت يدك. رواه أبو داود(1). وقد زاد: الأمر بيانًا فقال: «وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارضِ أمرٍ وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل، والمرضع، وعن وقت الحر، والبرد، والمرض، فهذا تأخير لمصلحة المحدود فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى»(2).
ومعنى هذا أنه يُقام عليهم من العقوبات التعزيرية ما يردعهم عن جرائمهم، ولا يُثير حفائظَ ذويهم، ولا يجعل منهم طلائع لقوات البغي في صفوف المجاهدين؛ ولهذا قال الكاساني: «وكذلك لو كان أميرًا على سرية أو أمير جيش وزنى رجلٌ منهم أو سرق أو شرب الخمر أو قتل مسلمًا خطأ أو عمدًا لم يأخذه الأميرُ بشيء من ذلك؛ لأن الإمامَ ما فُوِّض إليه إقامةُ الحدود والقصاص لعلمه أنه لا يقدر على إقامتها في دار الحرب، إلا أنه يضمنه السرقة إن كان استهلكها، ويضمنه الديةَ في باب القتل؛ لأنه يقدر على استيفاء ضمان المال»(3).
فليأتمر أهل العلم وأهل الخبرة من المجاهدين بينهم بمعروف، وليستلهموا الله الرشد فيما يُقيمونه على هؤلاء من عقوبات تعزيرية، تُحقِّق هذه المصالح السابقة أو جُلَّها. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الحدود» باب «في الرجل يسرق في الغزو أيقطع؟» حديث (4408)، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4408).
(2)«إعلام الموقعين» (3/5-7).
(3) «بدائع الصنائع» (7/131-132).