حدثتنا عن الربيع العربي وقضايا السياسة الشرعية، وقدمت لنا قواعدَ نظرية في باب الخروج على الحُكَّام، لا يكاد يُختلف عليها، ولكن القضية الأهم تتمثل في تحقيق مناطات هذه القواعد في واقعنا المعاصر، وقد وَعَدت بإنجاز ذلك في حلقة قادمة، فهلا أنجزتم ما وعدتم به بارك الله فيكم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلعلك تدرك معي أن هذا الأمر مزلَّة أقدام ومدحضة أفهام منا، تدرك مدى الحرج الذي يتعرض له من يبحر في هذه اللُّجة، ومن يخوض في هذه الملفات الشائكة، هل يسلم له اجتهاده؟ هل يسلم له دينه؟ هل يسلم له عرضه؟ هل يحسن الناس فهمه؟ أم تُكال له التُّهم وتنسج له الدسائس في مثل هذه الأجواء النكدة؟!
ولكن قُدِّر على من تعلَّم من علم الله شيئًا أن يجتهد في بلاغه، لا تبرأ الذمة إلا بذلك، فنقول وبالله التوفيق:
لقد أشرنا فيما مضى إلى خلاف أهل العلم في العزل بالفسق والظلم، ورجحنا القولَ بمنع القتال في الفتنة، وعدم الخروج المسلح بالفسق أو الظلم، وأحَلْنَا فيما وراء ذلك من أنواع العزل الأخرى السياسية أو القضائية إلى قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، ولست بصدد تفصيل القول في هذا الأخير، لأسباب سيتبينها القارئ في نهاية هذه الجولة الفكرية بإذن الله.
ولكن موضوع حديثنا التفصيلي حول إجماعِ كلمة أهل العلم على انعزال الأئمة بالكُفرِ البواح، واتفاقهم على أن الإمامةَ لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر ينعزل. وما ذكره الحافظ ابن حجر من قوله: «إنه ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرةُ من تلك الأرض»( ).
فما هو ذلك الكفرُ البواح الذي اتفق العلماء جميعًا على انعزال الأئمة به؟ وقبل أن نشرع في تفصيل القول في ذلك، وتحقيق بعض مناطاته المعاصرة، أودُّ الإشارة إلى أن تأصيل القول في هذه القضية لا يعني- حتى بعد تحقُّق الكفر البواح في بلد من بلاد الإسلام- تبني الدعوة إلى التهارج والانتفاضات العشوائية التي تستباح فيها البيضة، ويختلط فيها الحابل بالنابل، وتساق الأمة فيها إلى المهالك والمحارق، بغير قيادة راشدة وحسابات دقيقة، تتوقع معها الظفر وتأمن معها من الاصطلام والحروب الأهلية.
ومن أجل دفع هذا الإيهام، فإنني أُبادر إلى القول بإنه لو رفع أحدُ الحكام- لا قدر الله- صليبًا فوق الكعبة في بلاد الحرمين، أو رفع آخر- لا قدر الله- صليبًا فوق الأزهر في مصر، وأعلن الردَّةَ الصريحة عن الإسلام، ولبس مسوح اليهود والنصارى، فإن هذا رغم سقوط شرعيته، وانعدام ولايته، وسقوط طاعته، وانتقاض عقدة إمامته، لا يعني التداعي إلى التهارج والانتفاضات العشوائية التي تستباح فيها البيضة، وتنتهك فيها الحرمات، ويبغي الناس فيها بعضهم على بعض.
فإن القيام في عزل الحاكم بالرِّدة لا يتولاه أوزاع متفرقون، لا يضبطهم ضابط، ولا يجمع شتات أمرهم جامع، ولا يملكون من العُدة ما يتوقعون معها الظفر بغير مفاسد راجحة، فما شُرع الجهاد في الشريعة ليكون مجرَّدَ مشروع استشهاد فحسب، وإنما شُرع لإقامة الدين وإخزاء الكافرين، وشفاء صدور المؤمنين، فإذا لم يؤد الجهاد إلى هذه المقاصد لم يكن مشروعًا في هذه الحالة، وإنما ينتقل الواجب إلى إعداد العدة، حتى تتهيَّأ أسبابُ الظفر، وتمتهد سبُل النصر والغلبة.
ومثل هذا القرار لا يقبل أن يكون فرديًّا يتولاه فريقٌ من الأُمَّة بمعزِل عن بقية أهل الحَلِّ والعقد فيها، بل إن الذي يملك الإبرام هو الذي يملك النقضَ، والذي يملك العقد هو الذي يملك الحَلَّ، وهذا هو صمام الأمان والمخرج من الفتنة في مثل هذه المهالك.
ونرجع بعد هذه التوطئة إلى صورة من صور الكُفر البواح المعاصرة التي تنتقض بها البيعة وتنعدم بها الشرعية، ويتجاوز بها دائرة الظلم والفسق التي اختلف جمهور أهل السنة فيها مع غيرهم من الفرق الأخرى، ألا وهي صورة علمانية التشريع وتحكيم القوانين الوضعية بديلًا من تحكيم الشريعة الإسلامية.
ووجه التأكيد على هذا المناط والبداءة به بل الاقتصار عليه في هذه الفتوى هو ذلك الالتباس الذي حدث بين هذه الصورة وصورة الانحرافات الجزئية في تطبيق الشريعة، والتي وردت في مثلها مقالات السلف الصالح: كفر دون كفر.
وقد أدى هذه الالتباس إلى سلسة من الخلط والبغي المتبادل الذي جرَّ على العمل الإسلامي المعاصر كثيرًا من التصدعات والويلات.
وقبل أن أفيض في تحرير هذه المسألة أود أن يطمئن قارئي أنني لست مصرًّا إلا على الحق، فمتى ظهر بطلان هذا التقرير ولو على لسان أصغر طُويلب علم على وجه الأرض فأنا راجع عنه في حياتي وبعد مماتي، وإني لأُشهد الله على ذلك، والله خير الشاهدين، ولا أحل لأحد أن ينسب إليَّ منه حرفًا واحدًا.
رؤيتي معروضة على القراء، وبكل الحب والتقدير أنتظر تعقيباتهم ومداخلاتهم، فما هي العلمانية؟ وما هو حكمها في ميزان الشريعة؟
أسوق في الإجابة على ذلك هذه الخلاصات، ولا يتسع المقام لبسط أدلتها التفصيلية، ولكنها متاحة عند الحاجة إليها، وهي موضع نظر القارئ وتمحيصه.
العلمانية هي عزل الدين، وعدم الإقرار بمرجعيته في شأن من الشئون، وقد يكون ذلك مطلقًا فيُراد به الفصل بين الدين والحياة، أو مقيدًا فيراد به الفصل بين الدين وبين شأن بعينه من شئون الحياة، كالسياسة، أو الاقتصاد، أو التشريع، أو الإعلام، أو الأدب، ونحوه.
العلمانية بهذا المفهوم والإيمان نقيضان، المطلقة والمقيدة في ذلك سواء، لما تقرر من أن أصل الدين لا يثبت إلا بالإقرار المطلق بما بعث الله به رسوله ﷺ تصديقًا وانقيادًا، فمن رفض الشرعَ في أمر كمن رفضَه في كل أمر.
نقض العلمانية لأصل الدين من جهتي التوحيد والرسالة، فمن جهة التوحيد فهي لا تؤمن بالله هاديًا وآمرًا، وإن آمنت به خالقًا ورازقًا في بعض البلاد. ومن جهة الرسالة فهي لا تلتزم اتباعَ النبي ﷺ وإن صدَّقت خبرَه، وأقرت بنبوته في بعض البلاد.
المناط المكفِّر الذي نتحدث عنه في هذا المقام في باب العلمانية هو رفض الشريعة، أو جزء منها، تكذيبًا بثبوتها، أو طعنًا في حكمتها، أو لمجرد التمرُّد واتباع هوى النفس، وتحول هذا الوضع إلى نظام تشريعي، تلزم الأمة بالحكم به والتحاكم إليه، وعلى أساسه ينتخب الولاة، ويقسمون على احترامه والتقيُّد به ظاهرًا وباطنًا، وعلى أساسه يُنصَّب القضاة، ويقسمون على احترامه والتقيد به ظاهرًا وباطنًا، وتنشأ المحاكم العليا التي تراقب تطبيقَه، وتتعقب كل مخالفة له، وتنقضها، وتحكم عليها بالبطلان والانعدام.
من دان بهذه النِّحلة بعد معرفته بها، ومعرفته بدين المسلمين، فقد أتى عملًا من أعمال الكفر الأكبر، مع عدم الإخلال بقاعدة تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه عند التعيين.
الفرق بين العلمانية وبين ما وقع من انحراف في بعض العصور الإسلامية هو الفرق بين الكفر والمعصية، فالعلمانية ترفضُ ابتداءً مرجعية القرآن والسنة في شأن من الشئون، وهو كفرٌ بالإجماع، أما انحرافات الحكم بغير ما أنزل الله فيما مضى من بعض العصور الإسلامية فقد كانت مع الإقرار بالشريعة، والتسليم بمرجعيتها، وخروج المخالف لها عن مبدأ المشروعية. والخلط بين المناطين، وتنزيل أحكام أحدهما على الآخر من الأغلاط الشائعة في كثير من الأوساط الدعوية والعلمية المعاصرة.
وأجمع ما نسوقه في بيان الحكم الشرعي لعلمانية التشريع نقلان: أحدهما للحافظ ابن كثير حول الحكم بـ«الياسق»، عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50]. والآخر للشيخ محمد بن إبراهيم المفتي الأسبق لبلاد الحرمين حول تحكيم القوانين الوضعية، وذلك في رسالة تحكيم القوانين.
يقول ابن كثير: «ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرٍّ، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهلُ الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم [جنكيز خان]، الذي وضع لهم الياسِقَ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرَّد نظره وهواه، فصارت في بَنِيهِ شرعًا مُتَّبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن فعل ذلك منهم فهو كافرٌ يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكَّم سواه في قليل ولا كثير»(1).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم : في بيان أنواع كفر الاعتقاد التي تتعلق بقضية الحكم بغير ما أنزل الله: «الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرةً لأحكامه، ومشاقَّةً لله ورسوله، ومضاهاةً بالمحاكم الشرعية، إعدادًا وإمدادًا وإرصادًا وتأصيلًا، وتفريعًا وتشكيلًا وتنويعًا، وحكمًا وإلزامًا، ومراجع ومستندات.
فكما أنَّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدَّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذه المحاكم مراجعٌ، هي: القانون المُلفَّق من شرائعَ شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.
فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيَّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب، يحكُمُ حُكَّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنَّة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به، وتُقِرُّهم عليه، وتُحتِّمُه عليهم. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر؟! وأيُّ مناقضة للشهادة بأنَّ محمدًا رسولُ الله بعد هذه المناقضة؟!
هذا. وقد ورد على ما نقل عن الشيخ في رسالة تحكيم القوانين عبارةٌ أخرى صدرت عنه بعد ذلك، قالوا إنها تبين ما جاء مجملًا في هذه الرسالة، وهي قوله : في «مجموع الفتاوى» له: «وكذلك تحقيقُ معنى محمد رسول الله من تحكيم شريعته، والتقيد بها، ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من حكم بها- يعني القوانين الوضعية- أو حاكم إليها معتقدًا صحة ذلك وجوازه؛ فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، فإن فعل ذلك بدون اعتقادِ ذلك وجوازه فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملَّة»(2).
وإني لأعجب من إيراد هذا القول المجمل لكي تُرَدَّ به رسالة مفصَّلة شاملة قد استوعبت أقسام هذه النازلة من جميع جوانبها، فكيف تترك رسالة مفصلة بلغت ستَّ صفحات من القطع العريض إلى سطرين مجملين وَرُدَّا في مقام آخر؟! فهل المجمل هو الذي يُرَدُّ إلى المفصل أم المفصل هو الذي يُرَدُّ إلى المجمل؟! أجيبوا يأ أولي الألباب.
إني أحيلُ قارئي إلى رسالة تحكيم القوانين، وأحيل إليه الحكمَ في هذا الجمع، وأسأل الله أن يرينا وإياه الحقَّ حقًّا وأن يرزقنا اتباعَه، وأن يرينا وإياه الباطل باطلًا وأن يرزقنا اجتنابَه.
وإني لأعجب ممن ينازع في هذا المناط، وأسأله هذا السؤال: لو أن دولةً من الدول الإسلامية ألغت أحكامَ الميراث وأحكام الطلاق الشرعيَّة على مستوى محاكم الأسرة عندها، وجاءت بأحكام الأسرة في القانون الفرنسي أو الأمريكي، وأوجبت الحكم بها والتحاكم إليها، وأنشأت لذلك المحاكمَ الرقابية التي تضمن تطبيق هذه القوانين وتبطل ما خالفها، واستوثقت من القضاة عند تعييهم بقسم بالله العظيم أن يحترموا هذه القوانين ظاهرًا وباطنًا، وأن يحكموا بمقتضاها فيما يرفع إليهم من نوازل، وجعلت الحكم بما يخالفها باطلًا بطلانًا أصليًّا لا يقبل التصحيح ولا الإجازة؛ هل يتمارى أحد في أن هذه الصورة من جنس الكفر الأكبر؟!
هب أن هذه الدولة عملت ذلك في قانون العقوبات، أو في قانون المعاملات المالية، أو في غير ذلك من المجالات الحياتية الأخرى؛ أليس الحكمُ هو الحكم؟ لأن الشريعة هي الشريعة، والدين هو الدين، والديَّان هو الديان.
ومما أورد كذلك على تحرير المناط الكفري في قضية تحكيم القوانين، ما جاء عن بعض طلبة العلم من أن القولَ بخلق القرآن مما اتَّفق أهل العلم على كفر صاحبه، ولم يُجيزوا الخروجَ على الأئمة بسببه، فها هو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل يقرِّر كفرَ من قال بخلق القرآن، ولا ينزع يدًا من طاعة ممن فتنوا الأمة بهذه القول، وحملوها عليها بقوة السلطان، بل وفتنوا إمام أهل السنة نفسه، ومزقت سياطهم جسده، ومع هذا لم ينزع يدًا من طاعتهم بل عفَا عنهم، وكان يدعو لهم، وهو القائل: «اللهم انصر المعتصم في عمورية»(3).
ويجاب عن ذلك بأن القياس مع الفارق، ذلك أن نزاع فِرَق الضلالة جميعًا مع غيرهم من أهل القبلة كان حول ثبوت بعض النصوص أو دلالتها، مع إيمانهم في الجملة بمرجعِيَّتها، وإقرارهم بها تصديقًا وانقيادًا، ظاهرًا وباطنًا، لقد التقوا في الجملة على أصل الإيمان بالله ورسوله، واتفقوا على الإقرار المجمل بالتوحيد والرسالة، فاعتقدوا جميعًا بتفرُّد الله وحده بالخلق والأمر، ودانوا جميعًا بأن الحجَّة القاطعة والحكم الأعلى هو الوحي المعصوم، وكل ما نشأ بينهم بعد ذلك من الاختلافات فقد كان داخلَ هذا الإطار، فالطاعة للتكليف واتباع النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن موضعَ مماراة من أحدٍ منهم؛ ولهذا صحَّ وصف هذه الفرق بأنها فرق إسلامية؛ وثبت لهم جميعًا عقد الإسلام، على ما كان من بعضهم من بغي أو بدعةٍ أو فجور، لا يستثنى من ذلك منهم إلا من كان منافقًا في الباطن.
أما نزاع العلمانية مع أهل القبلة فهو نزاعٌ لا عهدَ للأمة به من قبل، إنه منازعة في أصل الدين، ومشاقَّة بيِّنَةٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، إنهم يجادلون في أصل حجيَّة الوحي الأعلى المعصوم في علاقة الدين بالدولة، وينازعون في مبدأ دخول الشئون السياسية والاقتصادية والعلاقات الدولية والأدبية والثقافية وغيرها من الأحكام السلطانية والاجتماعية في دائرة التكليف، ويكفرون بصلاحية الشريعة- كل الشريعة- للتطبيق.
إنها كما قال الآخر: ثورة على الإسلام… وانقلاب ضد النبوة… إنها حريق حول الكعبة!
ومما أُورِد على التحرير السابِق القولُ بأنَّ العلمانية المعاصرة لم تبتدئ ردَّ أحكام الشريعة وتبديلها، وإنما توارثت ذلك عن علمانية سابقة، وهي تسـعى إلى التغيير.
ولا شكَّ أن هذه الشبهة تعدُّ من أبرز الشبهات التي تشوش على كثير من الناس، والجواب على ذلك في مسألتين:
• المسألة الأولى:
أنه قد عُلم بالضرورة من دين الإسلام، بل من دين الرسل جميعًا أنه لا فرق في الحكم العام بين من يكفر بالحق ابتداءً، ومن يتوارث ذلك عن غيره مع الرضا والمتابعة.
فلا فرق بين من ابتدأ تحريفَ التوراة والإنجيل، وبين من توارث ذلك من اليهود والنصارى من بعد، ما داموا مقرين ومتابعين.
ولا فرق بين من ابتدع عبادةَ الأصنام، وبين من تعبَّد لها بعد ذلك تقليدًا ومتابعة، ولا فرق بين عمرو بن لحيٍّ الخزاعي، وهو أول من غيَّر دينَ إبراهيم، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا إلى عبادتها من دون الله، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله- وبين من تابعَه على ذلك من العرب من بعد.
ولقد خاطب القرآن الكريم أهلَ الكتاب بما ارتكبه آباؤهم من قبل، وما ذلك إلا لإقرارهم له ورضاهم به، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 91].
يقول لهم: إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان بما أُنزِل عليكم، فلِمَ قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بين أيديكم وقد أمرتم باتباعهم وتصديقهم؟!
وهذا خطاب لليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومعلومٌ أن أحدًا من هؤلاء لم يرتكب شيئًا من ذلك، وإنما هو أمرٌ جناه آباؤهم من قبل، فخوطبوا به لرضاهم به وإقرارهم له. ومثل ذلك كثير في القرآن.
• المسألة الثانية:
القول بأن هذه العلمانية المعاصرة تسعى إلى التغيير، وأن ذلك ينفي شبهة الرضا والمتابعة أمرٌ يحتاج إلى تفصيل:
ذلك أنه لا منازعةَ في صحة المبدأ في ذاته، فمن جاء على ميراث سابقٍ من الكفر، ولكن أعلنَ انخلاعه عنه، وكفره به وبراءته منه، ثم توجَّه نحو تغييره وإزالته، فلا شك أنه لا ينسحب عليه حكم من سبقه، ولا يُسأل عن جريمة جناها غيرُه، بل يُسْلَكُ- إن صدق- في عداد المجاهدين، أما إذا كان على خلاف ذلك فإنه يُحكم بما يظهر من حاله، وما تترجمه جليَّات أعماله.
صفوة القول في شبهة التسوية بين العلمانية وبين انحرافات التطبيق الجُزئية أنَّ مناط العلمانية يختلف عن مناطات الانحرافات الجزئية في تطبيق الأحكام الشرعية، فالأولى كفرٌ بلا نزاع، أما الثانية فشأنها شأن غيرها من الكبائر.
وفيها تفصيل:
فما كان منها عن ردٍّ أو استحلال فهو كفرٌ أكبر مُخرِجٌ من الملة، والاستحلال قد يكون مع تبدُّل عَقدِ القلب تُجاه المحرمات واعتقادها مباحاتٍ، أو مع بقاء عَقد القلب تُجاهها، ولكن مع رفض تحريمِها والامتناع من قبول هذا التحريم؛ ذلك أن العبدَ- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- إذا فعل الذنبَ مع اعتقاد أن الله حرَّمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه، فهذا ليس بكافر. فأما إن اعتقد أن الله لم يُحرمه أو أنه حرَّمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم، وأبى أن يُذعن لله وينقاد، فهو إما جاحدٌ أو معاند.
ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبرًا كإبليس كفَر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيًا لم يَكفُر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يُكفِّره الخوارج. فإن العاصيَ المستكبر وإن كان مصدقًا بأن اللهَ ربُّه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق.
وبيان هذا أن من فعل المحارمَ مستحلًّا لها فهو كافرٌ بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل. والاستحلال اعتقادُ أن الله لم يحرِّمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرَّمها، وهذا يكون بخللٍ في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، وجحدًا محضًا غير مبني على مقدمة. وتارة يَعلم أن الله حرَّمها، ويعلم أن الرسول إنما حرَّم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويُعاند المحرم، فهذا أشدُّ كفرًا من قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقادِ حكمة الأمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفر.
وما كان مردُّه إلى الأهواء والشهوات مع بقاء الإقرار القلبي بما أنزل الله تصديقًا وانقيادًا فهو كفرٌ دون كفر، وإلى مثله تنصرفُ العبارات المـأثورة عن بعض السلف من أن الحكمَ بغير ما أنزل الله كفرٌ دون كفر، ومخالفة ذلك شعبةٌ من شعب الخوارج الذين يكفِّرون أصحاب الكبائر، ولعلنا نسوقُ عبارة أبي مجلز- لاحق بن حميد الشيباني السدوسي- في محاجَّته للخوارج عندما أتاه أناس من بني عمرو بني سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيتَ قول الله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]. ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]. ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]. أحقٌّ هو؟ قال: نعم: فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنزل إليه؟! قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يُدعَوْن، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا. فقالوا: لا والله ولكنك تَفْرُق (تخاف). قال: أنتم أولى بهذا مني.
شيوع روح العلمانية أو بعض مظاهرها في بعض الأوساط لا يستلزم بالضرورة ثبوتُ أحكامها لهم على سبيل التعيين، لما تقرر عند أهل السنة من ضرورة التفريق بين الإطلاق والتعيين في باب إجراء الأحكام، فهناك كمٌّ هائل من الشبهات التي يتعين التحقُّق من انتفائها قبل الحكم على معين من هؤلاء، ومن أبرز هذه الشبهات ما يلي:
شبهات شائعة تحُول دون إجراء حُكمِ العلمانية على سبيل التعيين:
تكتنف المناط المكفر في باب العلمانية وتحكيم القوانين الوضعية في المجتمعات الإسلامية شبهاتٌ عديدة يتعيَّن التحقُّق من انتفائها قبل إجراء أحكامها على الآحاد، ومن هذه الشبهات:
• شبهة تقديم العقلِ على النقل، أو المصلحة على النصِّ عند التعارض، وأن بعض الأحكام الشرعية قد يُفضي تطبيقُها إلى بعض المفاسد لاختلال بعضِ الشروط، أو تخلف بعض المناطات، أو لمجرد تطوُّر الزمان، فتكون المصلحة الآنية في عدم تطبيقها. (نظرية الطوفي، وما نسب إليه من تقديم العقل على النقل عند التعارض).
• شبهة الاستضعاف على المستوى الدولي، وما يتعرض له تطبيقُ الشريعة من حملات كارثية. (تجربة السودان، وتجربة باكستان، وتجربة أفغانستان).
• شبهة أن كثيرًا من القوانين الوضعية مستمدٌّ من الشريعة الإسلامية في الأصل، فهي مما ترجمه الغرب من تراثنا الفقهي، فكأنها بضاعتنا رُدَّت إلينا، والنتيجة أن الشريعة مُطبَّقة بالفعل.
• شبهة أن الأحكام الشرعية في باب المعاملات أحكامٌ إرشاديَّة، وأن المقصود منها رُوحها وليس نصوصها.
• شبهة عدم ثبوت كثير من الأحاديث النبوية المثبتة لكثيرٍ من الأحكام الشرعية. (مسلسل الهجوم على السنة).
• شبهة تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان والمكان والأحوال والظروف.(دعاة التنوير).
• شبهة عدم وجود برامج وتقنيات شرعية صالحة للتطبيق.
• شبهة التترُّس بإعلان الانتساب إلى الإسلام، والإعلان في الدساتير عن أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للقانون.
• شبهة كفالة إقامة الشعائر، وشيوع بعض المظاهر الدينية، وتبنِّي كثير منها، ورصد الأموال والميزانيات اللازمة لذلك، (إدارات الوعظ، وإدارات المساجد، ترتيبات الحج والعمرة، الاحتفال ببعض المناسبات الدينية، إقامة العديد من الكليات الشرعية …. إلخ).
• شبهة عدم الإعلان النهائي عن العلمانية، وتشكيل اللجان التي تعمل على تقنين الشريعة.
• شبهة انحياز المؤسسات الدينية الرسمية وكثير من المبرزين من أهل العلم إلى الكيانات العلمانية، وتبنِّي كثيرٍ من مواقفها السياسية والفكرية (موقف الأزهر، وبعض هيئات كبار العلماء، وبعض المجامع الفقهية، ودور الإفتاء).
• شبهة شيوع التطرُّف والجهالة أو رقَّة الديانة في أوساط بعض المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأن كثيرًا من حملة الدعوة إلى ذلك ليسوا حملة رسالة أو طلاب آخرة، ولكنهم يتسترون وراء الدين لتحقيق مطامع سياسية.
ولا شكَّ أن وجودَ هذه الشبهات يتفاوت من منطقة إلى أخرى، وليس المقصود افتعالَ وُجودِها أو تكلُّفَه، وإنما اعتبارها عند إجراء الأحكام، متى احتمل وجودها في منطقة من المناطق، تحوطًا في باب التكفير، وباب تكفير المعيَّن من هؤلاء شيءٌ وباب انعدام الشرعية عن الكيانات العلمانية شيءٌ آخر، وتفصيل ذلك فيما يلي:
انعدام الشرعية عن العلمانية ومؤسساتها:
تستمدُّ المشروعية من موافقة الشريعة، وكل ما أُحدث من الأقوال والأفعال والطرق والمناهج على خلافها فهو ردٌّ، لا حرمة له، ولا أثر يترتب عليه.
والبطلان حكمٌ شرعي من أحكام الوضع لا علاقة له بأحكام التكليف، ولا علاقة له بقضية التأثيم أو التكفير، فمن صلَّى مثلًا بغير وضوء فصلاته باطلة، وقد يكون من فعل ذلك ناسيًا أو مكرهًا أو جاهلًا تأول تأويلًا فاسدًا فلا يأثم، وقد يكون عالمًا، ولكنه متهاون ومتلاعب بعبادته فهو مرتكبٌ لكبيرة، ولا يبعد القول بتكفيره، وقد يكون مستحلًّا لذلك فيكفر بالإجماع، ولا علاقة لذلك كله بحكم البطلان، فهو ثابت في جميع الحالات.
وعلى هذا فكلُّ كيان قام على العلمانية فهو باطلٌ ولا عهد له، مهما اختلف حول إجراء أحكام الإسلام أو الكفر عليه.
انعدام شرعية الكيانات العلمانية، وفرضية البراءة من باطلها، وعدم مشايعتها عليه بقول أو عملٍ، لخصومتها مع الدين، وعدم إقرارها بمرجعيته، ينبغي أن يكون من الـمُحكم الذي لا يختلف فيه ولا يختلف عليه، مهما وقع من جدالٍ حول أحكام القائمين عليها.
انعدام الشرعية لا يعني بالضرورة إعلانَ التمرُّد أو العصيان المدني، كما لا يعني انعدامَ الشرعية عن جميع الولايات الجزئية المنبثقة من هذه الولاية العامة وقراراتها، بل ينفذ منها ما وافق الحقَّ رفعًا للحرج، وتحقيقًا للمصالح العامة. وقد شهدت الأمة سيطرة دُوَل مرتدة كالعبيدين والقرامطة وغيرهم ولم يحكموا بإبطال كلِّ تصرفات الولايات الجزئية المنبثقة منها، بل قضوا بنفاذ ما وافق الحقَّ من أعمالها، لا يصلح الناس إلا بذلك.
كما لا يعني بالضرورة وجوبَ المنابذة الفورية، فإن لفريضةِ الجهادِ أو الحسبةِ شروطًا لابد من توافرها حتى يتحَقَّق مقصودُ الشارع بها، وإلا كانت تغريرًا بالنفوس والأموال فيما لا طائل تحته، أما عقدُ القلب على الكُفرِ بباطلها والبراءة منه فيجب أن يبقى جازمًا في جميع الأحوال استضعافًا أو استخلافًا.
بل إن المنابذةَ قد لا تكون في زمننا هذا هي الخيار الأنسب، فقد ندخلُ مع بعض هذه الكيانات في معاقدة اجتماعية على مشترك من الصالح العام، نتفق معًا على إنفاذه عند ظهور المصلحة في ذلك، وهذا هو الغالب على العلاقات بين الكيانات والمؤسسات والثقافات في واقعنا المعاصر، كما ندخل في مثل هذه المعاقدات مع دول الكفر المحض، أليست بعض المؤسسات والكيانات الوطنية أولى بذلك؟!
وأختم بما بدأت به من القول:
إنه لو رفع أحدُ الحكام- لا قدر الله- صليبًا فوق الكعبة في بلاد الحرمين، أو رفع آخرُ- لا قدر الله صليبًا- فوق الأزهر في مصر، وأعلن الردَّة الصريحة عن الإسلام، ولبس مسوحَ اليهود والنصارى، فإن هذا رغم سقوط شرعيَّته، وانعدام ولايته، وانتقاض عقدة إمامته، لا يعني التداعي إلى التهارج والانتفاضات العشوائية التي تُستَباح فيها البيضة، وتُنتهك فيها الحرمات، ويبغي الناس فيها بعضُهم على بعض.
فإن القيام في عزل الحاكم بالردة، أو لوجود الكفر البواحِ لا يتولاه أوزاع متفرقون، لا يضبطهم ضابط، ولا يجمع شتات أمرهم جامع، ولا يملكون من العدة ما يتوقعون معها الظفرَ بغير مفاسد راجحةٍ، فما شُرع الجهاد في الشريعة ليكون مجرَّد مشروع استشهاد فحسب، وإنما شرع لإقامة الدين وإخزاء الكافرين، وشفاء صدور المؤمنين، فإذا لم يؤدِّ الجهادُ إلى هذه المقاصد لم يكن مشروعًا في هذه الحالة، وإنما ينتقل الواجب إلى إعداد العدة، حتى تتهيَّأ أسبابُ الظفر، وتمتهد سبلُ النصر والغلبة.
ومثل هذا القرار لا يُقبل أن يكون فرديًّا يتولاه فريق من الأمة بمعزِل عن بقية أهل الحَلِّ والعقد فيها، بل إن الذي يملك الإبرامَ هو الذي يملك النقض، والذي يملك العَقدَ هو الذي يملك الحَلَّ، وهذا هو صمام الأمان والمخرج من الفتنة في مثل هذه المهالك. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) «تفسير ابن كثير» (2/68).
(2) «مجموع الفتاوى» (1/80).
(3) ذكر ابن الجوزي في «صفة الصفوة» (2/352): عن أحمد بن سنان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصمَ في حلٍّ في يوم فتح بابك أو في فتح عمورية. فقال: هو في حلٍّ من ضربي.