أثار بعضُ الفضلاء تعليقًا على الموضوع السابق بأن التفريقَ بين عزل الحاكم الظالم بسلاحٍ وعزله بغير سلاح فيه نظر؛ ﻷن النصوص المانعة لم تفرق. وما نقله الداودي عن العلماء في الرخصة لم يفرق أيضًا فيكون هذا رأيًا حادثًا ﻻ دليل عليه من نصٍّ وﻻ إجماع. والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فيمكن مناقشة هذا الإيراد الجميل بأنه ليست كلُّ مسائل الأحكام السلطانية مما ورد فيها نصٌّ أو إجماع، بل إن جُلَّها يعتمد على الاستصلاح، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وإن نظرةً واحدةً إلى كتاب «الأحكام السلطانية» للماوري أو لأبي يعلى تُبيِّن لنا ذلك، فمسائل هذه الباب كغيرها من مسائل الفقه، يوجد منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، ومنها ما يعتمد على النصوص أو الإجماع، ومنها ما يعتمد على الاجتهاد والنظر المصلحيِّ.
والأصل في مباحث هذا الباب أنها من مسائل الفروع، فالإمامة عند أهل السنة معدودةٌ من فروض الكفايات، وهي التي يقصد الشارع تحصيلَها في الجملة، من غير أن يقصد حصولها من آحاد المكلفين، ولهذا فإن الأصل أن تدرس في كتب الفروع لتعلقها بالأحكام العملية دون الاعتقاد.
ولكنه نظرًا لما شاع في باب الإمامة من الاعتقادات الفاسدة التي تولى كبرها الشيعةُ والخوارج، ألحقها بعض العلماء بأبواب العقائد للردِّ على ما ألحقه بها هؤلاء الغلاة من البدع والضلالات؛ فهي باعتبارها من الأحكام التكليفية أليقُ بعلم الفقه، وباعتبار ما أُلصق بها من الغلو والشطط من جانب فريق من المبتدعة كانت بعض مباحثها أليق بالمباحث العقديَّة. كما ألحق أهل العلم المسح على الخفين مثلًا بأبواب العقائد وهو مسألة فروعية، ولكن لما صار منعها شعارًا لبعض أهل البدع ألحقت بأبواب العقائد وهكذا.
والمقصود من هذا الاستطراد أنه لا يلزم أن تكون كل مسائل هذا الباب نصيَّة أو إجماعية، فتعالوا بنا نتأمل هذا الاجتهاد الذي فرَّق بين الخروج المسلح فمنعه، وبين العزل بالطرق الأخرى فأحاله إلى قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد:
• لا يخفى أن الصبرَ على جَوْر الأئمة، وإن جلدوا ظهورنا، وأخذوا أموالنا، مستثنى من أصل عام، وهي إنكار المنكر، والضرب على يد الظالم، وكون من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد(1).
وهكذا، وهو من الأحكام المعلَّلة، وليس من الأحكام التعبُّدية المحضة، التي لا يُنظر فيها إلى العلل.
ولا خفاءَ أن العلة في هذا هو دفعُ أعظم المفسدتين، فإن مفسدة الصبر على جور الأئمة دون مفسدة الخروج عليهم، فقد يحدث من المظالم في فوضى ساعة ما لا يحصل من المظالم في جور سنين، والتاريخ شاهد بذلك، فحركات الخروج على الأئمة في التاريخ الإسلامي قد تولَّد عنها من الشرِّ أضعافُ ما تولد عنها من الخير، وإلا فإن الشريعة لا تُعطي شرعيَّة لجَوْرٍ، ولا تسبغ حماية على ظالم أو مبطل، فما بعث الله رسله وما أنزل كتبه إلا ليقوم الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25].
• وبناء على ذلك فإذا امتهد سبيلٌ سياسيٌّ أو قضائي لدفع هذا الظلم، بغير مفسدة راجحة، عُدنا إلى الأصلِ المستيقن، الذي تقرِّرُه عشرات الأدلة الأخرى التي أشرنا إليها عند عرض أدلة الفريق الثاني، وهو مجاهدة الظلمة وكفهم عن الظلم، ولما كان هذا الاحتمال قد يُرجى حصوله في الوسائل السلميَّة للعزل قلنا به في هذا الباب، وحملنا عليه مقالاتِ أهل العلم الذين أحالوا في قضية عزلِ أئمة الجور إلى قاعدة الموازنة بين مفاسد العزل ومفاسد الصبر على العزل بهذه الوسائل السلمية، ولم نقل به في العزل المسلح لغلبة الفساد واطِّراده في هذه الحالة.
• ومن الشواهد التاريخية المعاصرة التي يُستشهد بها لهذا القول أو يُستأنس لها به- ما شهده تاريخُ بلاد الحرمين من أزمة كبرى بين الملك سعود : وإخوته، وكان قد اتُّهم بتَقدِميَّتِه وميوله الناصرية، واحتدم الصراعُ بينه وبينهم،وأيًّا كانت بواعث هذا الصراع وملابساته، فالذي يهمُّنا من هذا المشهد كيف عالج أهله هذا الشقاق، وكيف احتووا هذه الأزمة؟
لقد انعقد مجلس العائلة الحاكمة لآل سعود بزعامة الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود، وبحضور العلماء، وأهل الحلِّ والعقد في المملكة العربية السعودية، وبحضور أيضًا الأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود أكبر الأشقاء بعد الأمير فيصل، وبحضور مفتي الديار السعودية: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأصدروا فتواهم في تاريخ 29/3/1964 بنقل السلطات الملكية من الملك سعود بن عبد العزيز إلى أخيه الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود وليِّ العهد، ويبقى الملك سعود ملكًا له حق الاحترام والإجلال.
فنُقِلت الصلاحيات تعاملًا مع الواقع، وبقي الاحترام والإجلال للملك سعود محافظة على الأواصر، ودرءًا للفتنة، وظلَّ الحالُ على ذلك قرابة ثمانية أشهر حتى الثاني من نوفمبر من عام 1964 حيث اجتمع العلماء والقضاة والأمراء من آل سعود واستعرضوا التطورات الأخيرة- الانقلاب في اليمن، وقصف مدينة جيزان ونجران من قبل السلاح الجوي المصري- والخلاف بين الإخوة: الملك سعود وأخيه الأمير فيصل ولي عهده، وقرروا خلع الملك سعود من الحُكم، وتنصيب الأمير فيصل بن عبد العزيز ملكًا على المملكة العربية السعودية.
تصرُّفٌ شارك فيه أهلُ الحل والعقد جميعًا، من أهل العلم وأهل القدرة، ورست به سفينة المملكة يومئذ على الجودي، وما علمنا أنه أريقت فيه يومئذ قطرة دم واحدة.
وهو اجتهادٌ على كل حال لسنا مُصرِّين عليه إذا ظهر فسادُه، وليس هو قضيتنا الأساسية في هذا الباب، كما سنبين في الحلقة القادمة إن شاء الله. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «من قاتل دون ماله» حديث (2480)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه وإن قتل كان في النار وأن من قتل دون ماله فهو شهيد» حديث (141)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.