ما قراءتك للمحنة في مصر؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
مقدمة:
لا أدري إن كان توقيتُ هذه القراءة مناسبًا أم أنه تعجُّل للأمر قبل أوانه. ولا أدري إن كان سيُحسن الظن بها وبكاتبها أم ستتناوشه الهواجس والظنون. وأيًّا كان الأمرُ فإن التتابع المذهل والصادم للأحداث يقتضي في ظني هذا التعجيل، نصحًا لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وربطًا على قلوب تسرَّب إليها شوبٌ من سوء الظنِّ بقدَرِ الله أو كادت، وأوشكت أن تتهم قدرَ الله على حالها، بدلًا من أن تتهم حالها على قدر الله .
بطبيعة الحال لا تتسنى قراءةٌ دقيقةٌ لمشهد من المشاهد إلا بقدرِ ما توافر لدى قارئه من معلومات دقيقة، وبقدر النقصِ في المعلومات يكون النقصُ في الدقة في القراءة، والعمق في التحليل والمعالجة، فأرجو أن يعذرني من تمسُّه هذه القراءة بدرجة أو بأخرى إن رأى في بعضها قصورًا في التصور، أو هشاشة في التحليل، بسبب نقص المعلومات الدقيقة التي يعسر الوقوف على كثير منها في هذا المشهد الدرامي الصادم والفاجع.
وعذري في ذلك أنَّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وأن ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك جلُّه، ووالله الذي لا إله إلا هو ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
لم أكن في يوم من الأيام خصمًا لفصيل من فصائل العمل الإسلامي، حتى هؤلاء الذين أطلقوا ألسنتهم في كاتب هذا السطور بالقدح، ودبَّجُوا في ذلك ما دبَّجوا من المقالات، ومنهم من طيَّر من ذلك ما طير عبر الفضائيات، وكنت أذكِّرُ نفسي دائمًا أنهم متأوِّلُون، وأن هناك من شوَّش عليهم بمعلومات غير دقيقة، فكانت مواقفهم صدًى لهذا التشويش، فلعلهم يُعذرون بذلك، أو بعضهم على الأقل، وهم في النهاية أهل ديانة وصيانة.
وإذا كنتُ لم أخاصم أحدًا من الكيانات الدعوية، فإنني لم أعطِ أحدًا منهم صفقة يدي وثمرةَ فؤادي؛ بل بقيت على مسافة متقاربة من الجميع، على منازلهم التي أنزلهم الله إياها، وعلى تناصح متبادلٍ مع الجميع، وقد كلفني ذلك في مشواري الدعوي ما كلفني، ولكن عزائي أنني رجوت ولا أزال أن يكون هذا هو الأرضى لله والأعبد له.
هذه القراءة سلسلة ممتدة؛ فأرجو أن لا يعجل القارئ إذا لم يجد ضالته في المقالة الأولى، ووصيتي له أن يصبر نفسه حتى يفرغ من قراءة هذه السلسلة، فلابد أن يجد فيها بإذن الله كثيرًا مما يبحث عنه. وبطبيعة الحال لن تستوعب هذه المشهد الدامي مقالةٌ أو مقالتان، فليصبر نفسه، ولا ينبغي أن يُصاب بخيبة أمل إن هو لم يجد ضالته في المقالة الأولى.
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا:
لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، أو بلغة أكثر معاصرة: لو دارت عقارب الساعة إلى الوراء، ولو بدا لنا بالأمس ما أفقنا اليوم على فواجعه وفواقره- تُرى هل كنا سنسلك نفس المسار، ونُصِرُّ على نفس الاختيارات؟
سؤال لا حرج شرعًا في طرحه، فإن «لو» لا تفتح دائمًا عمل الشيطان، وإنما تكون كذلك إذا كانت تحسرًا على ما فات، أو اعتراضًا على شرع الله أو قدره، أو احتجاجًا بقدره على المعصية. أما عندما تكون تحليلًا لتجربة لكي لا تتكرَّر أخطاؤها، أو تأسفًا على ما فات من طاعة، أو دراسة لمحنة لكي لا يُستدام ضرامها، أو تمنيًا مشروعًا لخير يُؤجر عليه صاحبه، أو خبرًا محضًا- فإنها تكون مشروعة.
وفي نصوص الشريعة استخدامات كثيرة مشروعة لكلمة «لو»، ولنا أن نتأمل قولَ المعصوم ﷺ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْـهَدْيَ»(1). واستشهد بها أهلُ الفقه على أن خيرَ الأنساك التمتُّع.
وقوله ﷺ في حديث: «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ»: «لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ. فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ»(2). فلا حرج في تمنِّي الخير؛ ويؤجر صاحبه بهذا التمني.
واستدل به أهلُ العلم على أن الرجل قد يبلغ بنيَّتِه ما يبلغه العاملُ بعمله، وفي القرآن الكريم قولُ الله تعالى على لسان نبيه ﷺ: { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].
وقد نقل ابنُ حجر في «الفتح» عن القرطبي أنه قال في «المفهم»: «محل النهي عن إطلاقها- يعني لو- إنما هو فيما إذا أطلقت معارضةً للقدَرِ، مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور؛ لا ما إذا أُخبر بالمانع على جهة أن يتعلق به فائدةٌ في المستقبل، فإن مثل هذا لا يختلف في جواز إطلاقه، وليس فيه فتح لعمل الشيطان، ولا ما يُفضي إلى تحريم»(3).
وقال النووي في «شرح مسلم»: «أما من قالها تأسُّفًا على ما فات من طاعة الله تعالى، أو ما هو متعذَّر عليه من ذلك، ونحو هذا- فلا بأس به. وعليه يُحمل أكثرُ الاستعمال الموجود في الأحاديث. والله أعلم»(4) اهـ.
وسوف تكون البداءة في الحلقة القادمة بالحديث عن المشهد السلفي، ثم يعقب ذلك حديثٌ عن بقية المشاهد بإذن الله، والله من وراء القصد.
________________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «التمني» باب «قول النبي ﷺ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت» حديث (7229)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراج الحج» حديث (1211)، من حديث عائشة ل.
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (4/231) حديث (18060)، والترمذي في كتاب «الزهد» باب «ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر» حديث (2325)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «النية» حديث (4228)، من حديث أبي كبشة الأنماري ، وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (3024).
(3) «فتح الباري» (13/228).
(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (16/216).