ما رأي فضيلتكم فيما حدث اليومُ من فضِّ اعتصامٍ بالقوة، وما نتج عنه من قتل وحرق جثث ودعوة للانتقام وحمل السلاح؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 – 6].
تتقاصر كلماتُنا بالغةً ما بلغت عن التعبيرِ عن حريق الغضب والألم الذي يجتاح مشاعرَ أهل الإسلام لهذا المشهد الدامي، والمجزرة المروِّعة، التي استيقظت عليها مصرُ بأكملها في هذا اليوم العصيب.
لا نملك أن نقول إلا ما يرضَى ربُّنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون. وعزاؤنا قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42]، وأن ملائكةَ الجبار كانت تُحصي على الظُّلَّامِ جرائِمَهم وشناعاتهم، وتنتظر ومضةً من المنتقم الجبار لتدمِّر عليهم، كما دمرت على أسلافهم، فتجعلهم كهشيم المحتظر، أو تجعلهم كعصف مأكول.
نعم، لقد اختار الموتُ من صفوفنا، أحبُّ من رأت عيوننا، وكأني بحشرجات المنكوبين في فلذات أكبادهم، يقولون في حرقة مناجاتهم لخالقهم: لمن لمن وكلتنا؟! إلى متى ستُطعِمُ الذئابَ ما وهبتنا؟!
كَذا فَليَجِلَّ الخَطبُ وَليَفدَحِ الأَمرُ
فَلَيسَ لِعَينٍ لَم يَفِض ماؤُها عُذرُ(1)
أما الذين قضَوا نَحْبَهُم أيُّها المحبُّ فلن تذهب دماؤهم سُدًى، ولن يُضِلَّ الله أعمالهم، بل سيهديهم ويُصلح بالهم، فقد قال تعالى: { وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4 – 6].
وإنا لنرجو أن يكونوا الآن في حواصل طيور خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل(2). وما أصابهم من الموت لم يستشعروا ألمَه، فما يجد الشهيدُ من الموت إلا ما يجد أحدُكم من مَسِّ القرصة(3).
ولكن المعاناة إنما تكون لذويهم من بعدهم الذين يتجرعون مراراتِ فَقدِهم، وعذابات ثَكلِهم ويُتمِهِم. وهؤلاء الذين نحتسب على الله عز وجل، ونبتهل إليه أن يسكُب في قلوبهم بردَ العزاء والسكينة، وأن يُفرغَ عليها صبرًا ورضًا، وأن يملأَها يقينًا حتى تعلم أن ما أصاب العبد لم يكن لِيُخطِئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه(4). ومن يؤمن بالله يهد قلبه(5).
أما الظُّلَّام وأكابرُ المجرمين فالموعدُ اللهُ، والملتقَى والخصومة بين يديه، فـ«لا يزال العبدُ في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما»(6).
وسوف تظل هذه الدماء الزكية التي أريقت ظلمًا وعدوانًا، ولم يفرق جلاوزتُها بين رجل أو امرأة، ولا بين كبيرٍ أو صغير، حتى بلغ الأمرُ مبلغَ إحراق الجثث، ومبلغ الامتناع عن إعطاء التصاريح بدفن الجثث حتى يُقِرَّ أولياؤها أنهم ماتوا في حادث سير، أو ماتوا نتيجةَ انتحار، في محاولة يائسة ٍوبائسة لإخفاء معالم الجريمة- سوف تظل ريبةً في قلوبهم إلى أن تُقطِّع قلوبَهم، ولعنةً تطاردهم أحياءً وأمواتًا، وتنزل معهم في قبورِهم إلا أن يتوبُوا، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } [الشعراء: 227].
وأما الجهادُ السلمي لإقامة الدين، والمحافظة على الهوية، واستعادة الشرعية، فهو ماضٍ بإذن الله لا يُوقفه شهادةُ من استُشهد، ولا جراحات من جرح، ولنا فيمن استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرحُ يومَ أحُد عبرةٌ وموعظةٌ، { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172].
وهؤلاء هم من دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخروجِ معه كرَّة أخرى وهم مُثخنون بالجِراح، ولم يَنسوا بعدُ هولَ المعركة وشدةَ الكرب، وقد فقدوا من أعزائهم من فقَدُوا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم، ودعاهم وحدَهم، ولم يأذن لأحدٍ تخلَّف عن الغزوة أن يخرج معهم ليقويهم ويُكثر عددهم.
كما كان يمكن أن يقال: فاستجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعله صلى الله عليه وسلم شاءَ ألَّا يكون آخرَ ما تنضمُّ عليه جوانحُ المسلمين ومشاعرُهم هو شعورُ الهزيمة وآلامُ القرح، فاستنهضهم لمتابعة قريشٍ وتعَقُّبِها كي يُقِرَّ في أخلادهم أنها تجربةٌ وابتلاء، وليست نهايةَ المطاف، وأنهم بعدَ ذلك أقوياءُ، وأن خصومَهم المنتصرين ضعفاءُ.
ولعله صلى الله عليه وسلم شاء في الجانب الآخر ألَّا تمضيَ قريشٌ وفي جوانحها ومشاعرِها أَخْيِلَةُ النصر ومَذَاقاته، فمضى خلفَ قريش بالبقيَّة ممن حضروا المعركةَ أمس، يُشعر قريشًا أنها لم تنل من المسلمين منالًا، وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها، ورحم الله صاحب «الظلال»(7).
هذا ولا يعني حديثُنا عن غزوة أُحُدٍ تكفيرَ المعسكر المخالف أو تشبيهَه بمعسكر كفَّار قريش، معاذ الله! فنحن أبعدُ الناس عن ذلك والحمد لله، ولا نخلط بين معسكر البغاة ومعسكر المشركين، ولكن وجهُ الشبه أخذُ العبرة في استدامة نُصرة الحق والثبات عليه بعد الانكسار في أحدِ المشاهد، وأن الانكسار في مشهد لا يعني نهايةَ المطاف، فإن العاقبة للتقوى(8).
ومع استمرار هذا الجهاد السلمي واستدامَة مسيرتِه لابد أن يتداعَى العقلاءُ لدراسة المحنة، واستيعابِ دروسها، والاستفادة منها لرسم مستقبلٍ أفضلَ بإذن الله، فإن دماء أهل الإسلام ليست هيِّنةً، ولا ينبغي أن يُغرر بها إلا حيثُ يغلب على ظَنِّها غِناؤها في إقامة الدين، ونكايتُها في خصومه. وحرمةُ دماء المعاهدين لأهل الإسلام من جنسِ حرمة دماء أهل الإسلام أنفسهم.
ولا شك أن ردودَ الأفعال العشوائية التي لا تنطلق من هديٍ نبويٍّ، ولا من رشاد عقليٍّ- لا تجرُّ إلا إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وليس بيننا الآن نبيٌّ معصوم يُؤخذ منه فلا يُرَدُّ عليه، ولكن بقيت لنا الشورى، وما اشتور قومٌ في أمرٍ قطُّ إلا هُدوا إلى أرشد أمرهم. ورحم الله القائل: «ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقولِ، وأنيروا أشعةَ العقول بلهب العواطف، وألزموا الخيالَ صدقَ الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائقَ في أضواء الخيال الزاهية البراقة، ولا تميلوا كلَّ الميل فتذروها كالمعلَّقة، ولا تصادموا نواميسَ الكون فإنها غلَّابة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد».
ولا يفوتنا التأكيدُ على استدامة السلميَّة بمنتهى الجلاء والشفافية، والضرب على أيدي المخالفين، وإعلان البراءة منهم على الملأ، وفضح من يندسُّون من المغرضين داخل الصفوف لجرِّها إلى هذا المستنقع الآسن، فستظل قوتنا في سلميتنا في نهاية المطاف، مهما بلغت فداحة الثمن.
وأما هؤلاء الذين أظهروا شماتةً؛ من بعض التيارات الليبرالية ونجوم قنوات الفتنة، وبلغ بهم الاستخفافُ بالعقول والتجرُّدُ من كل حريجة من دينٍ أو خُلُق أن يقولَ بعضهم: إن هؤلاء القتلى كانوا ممن قتلهم الإخوان، وأخفَوا جُثثهم طوال هذه الفترة في قبوٍ تحت الأرض، حقًّا إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»(9)، إننا نقول لهم: الأيام دُوَل، وما أنتم بمُعجزين في الأرض ولا في السماء، ونذكرهم بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]. وقوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46].
عزائي من الظُّلَّام إن متُّ قبلهم
عمومُ المنايا ما لها من تجامله(10)
|
ورحم الله القائل:
إذا ما الدهر جرَّ على أناسٍ
مصائبه أناخ بآخرينا
فقُل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا(11)
لقد كنا نرجو أن تكون للموتِ حُرمتُه، وللدماء البريئة التي تَزْهَقُ جلالُها ورهبتُها، وللمشاعر البشرية التي اتَّفق الأسوياءُ من البشر على مراعاتِها دورٌ في تهذيب العبارات التي تطير في هذه الـمَحْزَنة الكربلائية، ولكن صدق الله العظيم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة: 74].
ونحن نشكرهم أجزلَ الشكر أن أظهروا لنا حقيقةَ المبادئ التي يتنادَوْن إليها، والشعاراتِ التي صدعوا رءوسنا بها، ها هي النسخة المصرية لليبرالية، فيا حسرة على الليبرالية والليبراليين!
وإننا لنرجو أن يكون لله جوابٌ قريب، تقرُّ به عيونُ المؤمنين، ويشفي به صدورَهم، ويُذهب به غيظَ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء، والله عليم حكيم. والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________
(1) البيت لأبي تمام، وهو من بحر الطويل.
(2) ففي الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «بيان أن أرواح الشهداء في الجنة» حديث (1887) عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}؟ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أَرْوَاحُهُمْ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَـهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ من الْـجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً فقال: هل تَشْتَهُونَ شيئًا؟ قالوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ من الْـجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟! فَفَعَلَ ذلك بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فلما رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا من أَنْ يُسْأَلُوا قالوا: يا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا في أَجْسَادِنَا حتى نُقْتَلَ في سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فلما رَأَى أَنْ ليس لهم حَاجَةٌ تُرِكُوا».
(3) ##.
(4) ##.
(5) ##.
(6) ##.
(7) ##.
(8) ##.
(9) ##.
(10) ##.
(11) ##.