عدم المشاركة في المسيرات الرافضة للانقلاب العسكري في مصر

السؤال

فأُشهِدُ اللهَ أني أُحبكم في الله.

د.صلاح. أنا شاب أعيش في مصر وأرفض ما تَمَّ خلالَ العام الماضي من انتهاكٍ للسلطة والدماء والأعراض والأموال، ورغم ذلك فأنا لا أشارك في المسيرات الرافضة لذلك، ولا أجد ما أساعد به إخواني وأخواتي، فالبطش لدينا تعلمونه حضراتكم جيدًا. فبماذا تنصحوني؟ وهل أنا آثم بعدم مشاركتي في المظاهرات؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فأدنى ما تبرأُ به الذِّمَّةُ أن يرى اللهَ من قِبَلِك أنك كارهٌ للظلم والبغي، وأن لا تُشايع ظالمًا على ظلمه بقول أو بعمل، وأن تنصح لله ورسوله، فإن قويت على شيء وراء ذلك مما تنكر به المنكرَ بغيرِ مفسدةٍ راجحة فلا تُقصِّر، وإن لم تستطع فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. والله تعالى أعلى وأعلم.

حول تنظيم داعش وإعلان الخلافة على يد البغدادي

الحراك الذي يجري على أرض العراق، وإعلان الخلافة على يد البغدادي، وردود الأفعال المختلفة في الداخل والخارج، هل لكم من تعليق على ذلك كله؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فإننا نتفهم الحراك الراهن على أرض العراق، وندين بكل قوة الممارسات الطائفية التي تُعربد في بلاد الرافدين، والتي كدرت السلام الاجتماعي، وأدخلت البلاد في مسلسل من الفواجع والحرائق، وندعو للمظلومين على أرض العراق أن يكلل الله سعيهم بالنجاح، وأن يزيل عنهم هذه الغُمَّة الطائفية التي استباحت بيضتهم، ونكلت بهم وأحالت حياتهم إلى فواقر ومآتم.

ونتعامل مع سيل الأخبار التي تتناثر يمنة ويسرة بتحفُّظ وتأمل، فمنها ما قد يكون صحيحًا أُسِيءَ توظيفُه، ومنها ما قد يكون مُنتَحلًا ومكذوبًا، وقليل منها ذلك الذي يُوضع في سياقه، ويتحَرَّى فيه أصحابه الصدقَ والموضوعية.

ولا نريد لحديثنا في هذه النازلة أن يدور في فلك الإنكار المحض، بل نرجو أن يكون مقصودُه الأصلي النصيحةَ واستصلاحَ الأحوال، وأن نتحرى فيه العدل والدقة ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.

حول إعلان الخلافة:

إن الخلافةَ في مورُوثنا الإسلامي نيابةٌ عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ومن أبرز ملامحها وآكدها الإقرارُ بمرجعية الشريعة وسلطة الأمة، وهو الأمر الذي انعقد عليه إجماعُ الأولين والآخرين من المسلمين.

ومرجعية الشريعة ليست موضعَ مماراةٍ من أحد من ينتسبون إلى الفسطاط الإسلامي في الجملة، ممن لا يزالون على أصل الإقرار بالتوحيد والرسالة، وما نازع في مرجعيتها إلا غلاةُ العلمانيين واللبراليين واللادينيين وأضرابهم في واقعنا المعاصر، أما سلطان الأمة فهو الأمر الذي تعرض لانتهاكات صارخة ولا يزال، ومن أبرز صور انتهاكاته ما جرى مؤخرًا على يد البغدادي وفريقه عند إعلانهم لما سموه «الخلافة الإسلامية».

وأول ما يرِدُ على ذلك هو الاستبدادُ بهذا الأمر الجَلَل دون بقية المسلمين، فمن ذا الذي خولهم للافتيات على الأمة وفوضهم بذلك؟!

ألم يأتهم نبأُ عمر رضي الله عنه عندما قال: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا([1]).

والمعنى كما قال ابن حجر رحمه الله في «الفتح»: «أنَّ من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل»([2]).

وأيُّ شوكة يعوِّلُون عليها في إعلان الحرب على الدنيا بأسرها، وهم ينزعون الشرعيَّة عمن سواهم؟! ويَدعُون جميع الكيانات السياسية في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها إلى مبايَعَتِهم، وما يعنيه ذلكم من نزعِ شرعيتها جميعًا، وإعلان الحرب عليها جميعًا، ومن ورائها بقية دول العالم بمعسكريه: الشيوعي والرأسمالي؟!

فإذا أضيف إلى ذلك نفسُ التكفير واستحلال المخالفين الذي تنضحُ به تصريحاتُ رموزهم وكبرائهم، والتلويح بفلْقِ رءوس المنابذين لهم- لهالنا الأمرُ! وأدركنا ما يحمله من مخالفات شرعية، ومجازفات عملية، تفتقد لأدنى درجات الوعي والحكمة والرشد والبصيرة.

ويزداد الأمرُ خطورةً وشناعة عندما يطلق هذه التصريحات فريقٌ من البشر لـم يبلغوا بعدُ مبلغَ أن يكونوا دولةً، بل لا يزالون فصائلَ تُقاتل هنا وهناك، لم ترتفع لهم على دولة راية، ولم يدنُ لهم بالولاء كيانٌ سياسيٌّ، ثم يطالبون الأمة كلها بالبيعة لهم، وإلقاء السلم إليهم، ويتوعدون من ينازعهم بفلق الرأس! أليس هذا لونًا من الانتحار الديني والسياسي بكل المقاييس البشرية؟!

لا نريد أن نستغرق في شنِّ الغارة على هؤلاء، ولكننا في مقام النصيحة التي تعبدنا الله جل وعلا بها، وجعلها حقًّا لكل مسلم، وبدلًا من أن نلعن الظلام أرجو أن نُضِيء شمعةً، ونوجز نصحنا لهم في الأمور الآتية:

أولًا: مراجعة الموقف العقدي الذي ينتحلونه، ويتقلدونه معتقدًا، ويريدون إقامة كيانهم على أساسه.

إن استباحةَ المخالف والتلويح بفَلْقِ رأسه إن كان مبناهُ على تكفيره فتلك عقيدة الخوارج، إذ لم يُحفظ تكفير المخالف واستحلالُ دمه في دواوين التاريخ إلا عن الخوارج، وقد خاب وخسر من أحيا منهجهم، وتقلَّده دينًا ومعتقدًا. ولن يُكتب لمثله في سنن الله عز وجل غلبةٌ ولا تمكينٌ.

وإن كان مبناه على الاستطالة والبغي فهو الظلمُ الذي يسخطه الله ورسوله، و«إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([3])، ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون([4]).

ثانيًا: التراجعُ الفوري عن مشروع الخلافة حتى تتوفر مُقوِّمَاتُها، وتتهيَّأ أسبابُها، محافظةً على جلال هذا المنصب الكبير، وتراجعًا عن أعظم مجازفة تاريخيَّة شرعية وعملية في واقعنا المعاصر. والاقتصارُ على الحديث عن إقامة دولة راشدة في العراق، تُقيم العدل بين الناس، وتترفع فوق التشرذمات الطائفية، وتبذل العدلَ للمخالف لها من الشيعة أو من غيرهم.

ثالثا: تعظيمُ أمر الدماء، وإعلانُ النكير على من يجترئ عليها ويتخوَّض فيها بغير حق، فـ«لَنْ يَزَالَ الْـمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا»([5]). وكل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو مؤمنًا يقتل مؤمنًا متعمدًا([6]).

وهذا التعظيم للدماء شريعةٌ عامةٌ، لا يفرق فيها في الأصل بين مسلم وغيره، فلا تُستباح الدماء في دار الإسلام إلا بإحدى ثلاث: القتل العمد العدوان، أو الزنا بعد الإحصان، أو الردة بعد الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْـمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ»([7]). ولا تستباح خارج دار الإسلام إلا في الحرب المشروعة التي تكون لدرء الحرابة ودفع العدوان.

رابعًا: ترشيدُ الخطاب الإعلامي العام، والإعلان المتوازن عن الهوية، وبيان أنهم جزءٌ من أمة الإسلام الكبرى في باب الديانة، وجزءٌ من الأمة العربية في باب النَّسَب، وجزءٌ من المجتمعات المعاصرة في باب المواطنة، وجزء من المجتمع الدولي في باب العلاقات الدولية والإنسانية، والتأكيد على عدم التناقض بين الانتماء الديني والقومي والوطني، ما دام الانتماءُ القومي لا ينزع إلى الاستعلاء والتعصُّب، وما دامت العلاقات الدولية قائمةً على الحق والعدل، ولا تنزع إلى بَسط النفوذ والهيمنة.

خامسًا: التأكيد على أن الإطار الشرعي الذي يحكُم العلاقة بين أبناء الوطن الواحد عند اختلاف الملل والنحل هو ميثاقُ الأمان، أو العقد الاجتماعي الذي تُنشئه الإقامة على مشترك من الأرض، وهو ميثاق على البرِّ والقسط والسلامة من الأذى، وإطارُه المجمل هذه القاعدة الذهبية: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا».

وهي الكلمة التي شاعت في تراثنا الفقهي للتعبير عن حقوق الآخرين في دولة الإسلام، وهو يُنشئ لُـحمةً اجتماعيةً يترتب عليها واجباتٌ وحقوقٌ متبادلة، وتجعل أصل حرمة الدماء والأموال والأعراض والمرافق العامة مشتركًا بين الجميع، ولا مساس بشيء من ذلك إلا وَفْقَ ما تُحدده القوانين والنظم السارية التي تنبثق ابتداء من الشريعة.

وهذه اللُّحمة الوطنية لا تعني التفريطَ في الثوابت الدينية، ولا التلفيقَ بين الملل والنحل، بل هي التعاونُ على ما فيه خيرُ الإنسان وحفظُ كرامته وحمايةُ حقوقه، ورفعُ الظلم وردُّ العدوان عنه، وحلُّ مشكلاته، وتوفيرُ العيش الكريم له.

وهي مبادئ مشتركة جاءت بها الرسالات الإلهية، وأقرتها الدساتيرُ الوضعية، وإعلانات حقوق الإنسان الدولية، فالتواصل يجري وفق القاعدة القرآنية: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6].

سادسًا: منع الاحتقانات الطائفية، والسعي إلى تجفيف منابعها، وحلُّ الإشكالات والمنازعات التي قد تقع بين أبناء الوطن الواحد، وتوفيرُ المناخ الصالح للتعايش الاجتماعي والوطني؛ بلا غلوٍّ ولا جفاءٍ.

سابعًا: رفضُ الاستقواء بالأجنبي على حساب المصلحة الشرعية الوطنية في مثل هذه الظروف أو في غيرها، والتأكيد على أنه جريمةٌ شرعية وخيانة قومية.

ثامنًا: إعلانُ البراءة من الإرهاب بكُلِّ صوره، والدعوةُ إلى التكاتُف لمقاومته حيثما وقع، وأيًّا كان المتلَبِّس به، والتفريق بينه وبين حقِّ الدفاع المشروع.

والإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيًا على الإنسان في دينه، أو عقله، أو ماله، أو عرضه، فهو في الجملة: كلُّ فعل من أفعال العنفِ أو التهديد يقع تنفيذًا لمشروع إجرامي فرديٍّ أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم أو أحوالهم للخطر. فكل هذا من صور الفساد في الأرض التي نهى الله سبحانه وتعالى المسلمين عنها، وشدد النكير على فاعلها، وتوعَّده بأشد العقوبات الدنيوية والأخروية.

ثانيًا: حول الطريق إلى الخلافة:

الطريق إلى الخلافة يكون عن تراضٍ من جماعة المسلمين، وتشاورٍ فيما بينهم.

وتأويلُ ذلك عمليًّا أن يُعنَى كلُّ قطر بإقامة الدين في أرضه، وتنحية العقبات التي تَحُول بين الإنسان وبين مباشرة حقِّه في الإيمان، ثم يكون السعيُ بعد ذلك بين هذه الأقطار على التنسيق فيما بينها لإقامة هذا الكيان الجامع عن رضًا وتشاورٍ منهم جميعًا، ودون ذلك مراحل ومفاوز.

ويُستدعى لهذه المهمة خبراءُ السياسة الشرعية على مستوى العالم الإسلامي، وهم كُثر، ويفوض إليهم ترتيبُ هذا الأمر، واقتراحُ أنجح السبل لتحقيقه، ولكل حادثٍ حديث، ومن استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه.

ولا يفوتنا التنويهُ إلى أن العبرة بالحقائق والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني، فالنظام الذي يجمع كلمة الأمة على إقامة الدين وتحكيم الشريعة هو المقصود في هذا المقام، مهما اختلفت الأشكال والمسميات.

ويترتب على ما سبق أن الدعوات التي توجه إلى الشباب للهجرة إلى البغدادي ومبايعته بالخلافة- دعواتٌ باطلة، ولا نصيب لها من الصحة. ونُهيب بشبابنا أن لا ينساقوا وراء هذه الدعوات، وأن يدعو للقائمين عليها بالرشد والبصيرة والهداية. والله تعالى أعلى وأعلم.

______________________________

([1]) أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت» حديث (6830).

([2]) «فتح الباري» (12/150).

([3]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المظالم والغصب» باب «الظلم ظلمات يوم القيامة» حديث (2447)، ومسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم الظلم» حديث (2579)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

([4]) قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) } [إبراهيم: 42].

([5]) أخرجه البخاري في كتاب «الديات» باب «قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}» حديث (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([6]) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} [النساء: 93].

([7]) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «الديات» باب «قول الله تعالى: { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }» حديث (6878)، ومسلم في كتاب «القسامة والمحاربين والقصاص والديات» باب «ما يباح به دم المسلم» حديث (1676) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

تاريخ النشر : 31 يناير, 2021
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend