ما هي الشروط التي يجب توافرها في ولي أمر المسلمين أو الحاكم أو رئيس الجمهورية في ظلِّ أنظمةِ الحكم المعاصر؟ وهل تجوز ولاية الحاكم الذي يحكم بالقوانين الوضعية بدلًا من شرع الله؟ مع العلم أن المقصود من السؤال ليس الخروج عليه. وجزاكم الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فقد تحدَّثَ أهلُ العِلمِ عمن يَلِي أمرَ الولاية العامة في الأمة، واشترطوا فيه جملةً من الشروط، بعضها يرجع إلى النص، وبعضها الآخر إلى كونِه مما لا يَتِمُّ مقصودُ الإمامة إلا به، ومن هذه الشروط ما هو متَّفَق عليه، ومنها ما هو مختَلَفٌ فيه، وفيما يلي بيان هذه الشروط: أولًا: الإسلام: واعتبار هذا الشرط مما عُلِمَ من أحكامِ الإمامةِ بالضرورة؛ إذ كيف يَخلُفُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الدِّين في أمته مَن هو كافر به؟! فالإسلام هو الأصل والعصام؛ فلا تنعقد الإمامةُ لغير مسلمٍ، ولو طرأ عليه الكفرُ بعد تولِّيه فهو معزولٌ لا محالة، وهذا القدرُ متَّفَقٌ عليه بين العلماء، والأصل في اعتبارِ هذا الشرط النص والإجماع: قال تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141]، ولا سبيلَ أعظم من ولايةِ الإمام الأعظم، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: 59]، ففي قوله تعالى: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ دلالةٌ على وجوبِ أن يكون ولاةُ الأمرِ مِن المؤمنين؛ لأن الآية تتوجَّه بالخطاب إليهم من البداية. وقد نَقَلَ أهلُ العِلم الإجماعَ على هذا الشرط، قال القاضي عِيَاض: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافرٍ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفرُ انعزل»(1).
ثانيًا: التكليف: ومناطه البلوغُ والعقلُ: أما البلوغ فأمر بدهي؛ لأن الصبي ليس كُفئًا لمثل هذه المهام الكبرى، فهو غير مسئول عن أفعاله، ولا يتعلق بفعله حكم معين. وأما العقل فمطلوب لصحة كل تصرف خاص أو عام. ولا يكفي فيه الحد الأدنى للمطالبة بالتكاليف الشرعية من صلاة وصيام ونحوهما، بل لابد فيه من رجحان الرأي، بأن يكون صاحبه صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيدًا عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أَشكَل وفصل ما أَعضَل، كما قال الماوردي. فلا تنعقد الإمامةُ لصبيٍّ، ولا لمجنونٍ إجماعًا؛ لأن التكليفَ مِلاك الأمرِ وعصامه، ولا تكليف على صبيٍّ ولا مجنونٍ، قال صلى الله عليه وسلم : «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ»(2).
ثالثا: الذكورة: فلا تَنعقد الإمامةُ لامرأةٍ إجماعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عندما بَلَغَه أن أهلَ فارس ملَّكُوا بنتَ كسرى: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»(3). ووجهُ ذلك: أن مبنى الإمامة على الاختلاطِ بالرجال والتشاورِ معهم، ومبنى الأنوثةِ على السترِ والقرارِ في البيوت، فضلًا عن عدمِ صلاحيةِ المرأة في الغالب للقهرِ والغلبةِ وجرِّ العساكر وتدبيرِ الحروبِ ونحوه مما يُنَاط بالأئمة. ولأن عبءَ المنصب يتطلب قدرة كبيرة لا تتحملها المرأة عادة، ولا تتحمل المسئولية المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة، لذا أجمع الفقهاء على كون الإمام ذكرًا.
رابعًا: العلم: بأن يكون لديه من العلم ما يؤدي به إلى الاجتهاد فيما يطرأ من نوازل وأحداث، أو يستنبط من أحكام شرعية وغيرها من أحوال السياسة الشرعية، فإن لم يتيسر ذلك فلا أقل من أن يكون لديه من الدين ما يحمله على مشورة أهل العلم والصدور عن رأيهم وأن يكونوا خاصته وأهل مشورته. ولا يكون العالم مجتهدًا إلا إذا علم الأحكام الشرعية وكيفية استنباطها من مصادرها الشرعية الأربعة وهي: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. وأن يعرف أحوال العصر وما طرأ عليه من تغيرات وتطورات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وجمهور الفقهاءِ(4) على اعتبار هذا الشرط؛ لأن المقصودَ هو ترتيب الإمامةِ على وَفقِ الشرع، ولا يتأتَّى ذلك إلا من العالِم، واشتَرَطَ بعضُهم أن يَبلُغَ بعِلْمِه مبلغَ الاجتهاد. يقول الشافعي : في مَعرِض بيانِه لشروط الإمام: «والعلم بحيث يصلح أن يكون مفتيًا من أهل الاجتهاد»(5).
ويقول الشاطبي: «إن العلماء نَقَلُوا الاتفاقَ على أن الإمامةَ الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رُتبةَ الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع»(6). وخالف في ذلك الأحنافُ(7)، فلم يَشتَرِطُوا أن يَبلُغَ الإمامُ مبلغَ الاجتهادِ؛ وذلك لتعذر اجتماعِ هذا الشرطِ مع غيرِه من شروط الإمامةِ في واحدٍ، فضلًا عن إمكانِ تفويضِ الإمامِ غيرَه من المجتهِدِين في الحُكم في الأمورِ التي تستدعي الاجتهادَ، أو الحكم بعد استفتاء العلماء؛ وذلك لأن المقصودَ هو ترتيب الإمامةِ على وَفقِ الشرع، ولا فرقَ بين أن يَعرِفَ حُكمَ الشرعِ بنفسه أو بواسِطَةِ الرجوعِ إلى أهل الذِّكْرِ. وإلى هذا ذهب الغزالي رحمه الله. خامسًا: العدالة: وهي التقوى والورع أي: الديانة والأخلاق الفاضلة، وقد عرَّفَهَا الماورديُّ بقوله: «العدالةُ أن يكون صادقَ اللهجةِ، ظاهرَ الأمانةِ، عفيفًا عن المحارِم، متوقيًا المأثمَ، بعيدًا عن الريب، مأمونًا في الرِّضا والغضب، مستعملًا لمروءةِ مِثْلِه في دِينِه ودنياه»(8). وفي الجملة: هي التزام الواجبات الشرعية، والامتناع عن المنكرات والمعاصي المحرمة في الدين. والاعتبار في العدالة بغلبةِ هذه المعاني على أضدادها، فمن غلبت طاعتُه معصيتَه، وسرَّته حسنتُه وساءته سيئتُه، فذلك هو العدل الذي يكون أهلًا للشهادةِ والقضاءِ والإمامةِ. سادسًا: الكفاية: وهي تدورُ حول حصافة الرأي في القضايا السياسية والحربية والإدارية، فيجب أن يكون الإمامُ ذا رأيٍ في تدبير الأمورِ؛ ليتمكَّنَ من سياسةِ الرعية وتدبيرِ مصالحهم الدينيةِ والدنيويةِ. قال الماوردي: «الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح، وتابعه في هذا العلماء معبرين عن هذا الشرط بما يفيد الخبرة الكافية بشئون الناس وأمور البلاد وحاجات الحكم والسياسة»(9). كما يجب أن يكونَ قويًّا على إقامةِ ما أُنِيطَ به من تدبيرِ الأمورِ وإقامةِ الحدود. يقول ابن خَلْدُون :: «وأما الكفايةُ فهي أن يكونَ جريئًا على إقامةِ الحدود واقتحام الحروب، بصيرًا بها، كفيلًا بحملِ الناس عليها، عارفًا بالفطنةِ وأحوالِ الدهاء، قويًّا على معاناةِ السياسةِ؛ ليصحَّ له بذلك ما جُعِلَ إليه مِن حماية الدين وجهاد العدو وإقامة الأحكام وتدبير المصالح»(10). وجمهور الفقهاءِ على وجوبِ هذا الشرط(11)؛ لكونه مما لا يتحقَّق مقصودُ الإمامةِ إلا به. سابعًا: قوة الصفات الشخصية: بأن يتميز بالجرأة والشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة (الوطن) وجهاد العدو، وإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم من الظالم، وتنفيذ الأحكام الإسلامية. سادسًا: الكفاية الجسدية: وهي سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. وسلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. ومن لم يحكِّم الشريعة فليس أهلًا للولاية العامة، فإن تغلب كانت ولايته ولاية قهر واضطرار وليست ولاية سعة واختيار. ولأحكامها تفصيل يرجع إليه في مظانه من كتب أهل العلم. وثمة شرطٌ أخير تكلَّم عنه أهلُ العِلْمِ، وهو القرشية، أي: أن يكون الإمامُ من قريشٍ، وهو شرط فيمن يلي ولايةَ الأمةِ عامةً، ولسنا أمامَ هذا المنصب في مثل هذه الولايات القُطرية. والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/229).
(2) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/101) حديث (24747)، وأبو داود في كتاب «الحدود» باب «في المجنون يسرق أو يصيب حدًّا» حديث (4398)، والنسائي في كتاب «الطلاق» باب «من لا يقع طلاقه من الأزواج» حديث (3432)، وابن ماجه في كتاب «الطلاق» باب «طلاق المعتوه والصغير والنائم» حديث (2041)، والحاكم في «مستدركه» (2/67) حديث (2350)، من حديث عائشة ل. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وذكره ابن الملقن في «البدر المنير» (1/91- 92) وقال: «قال صاحب الإمام: هو أقوى إسنادًا».
(3) أخرجه البخاري في كتاب «المغازي» باب «كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر» حديث (4425) من حديث أبي بكرة.
(4) قال الشيخ الدردير في «الشرح الصغير» (2/273): «(والإمامة) العظمى أي: الخلافة من عالِم عَدْلٍ فطنٍ ذي همَّة قرشي فرض كفاية، ولا يُعزَل إن زال وصفُه ما لم يعزل نفسَه، بخلاف من وَلي أمرًا من الأمور وخان فيه فإنه يستحق العزل». وقال الإمام النووي في «منهاج الطالبين» ص (292): «شرط الإمام كونه مسلمًا مكلَّفا حرًّا ذكرًا قرشيًّا مجتَهِدًا شجاعًا ذا رأي وسمع وبصر ونطق…». وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «أسنى المطالب» (4/108): «(ويُشترَط كونُه حالَ العَقْد) لها (أو العَهْد) بها (أهلًا للقضاء) فيُشترَط كونُه مسلمًا مكلًّفًا عدلًا حرًّا ذكرًا مجتهدًا ذا كفايةٍ سميعًا بصيرًا ناطقًا لنقص غيره (شجاعًا) ليغزو بنفسه ويدير الجيوش…». وقال ابن مفلح في «المبدع في شرح المقنع» (8/146): «قال في الرعاية: لا تصح الإمامة العظمى إلا لمسلم حر، ذكر، مكلف، عدل، مجتهد، شجاع، مطاع، ذي رأي، سميع، بصير، ناطق، قرشي. ولابد من بيعة أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس، والاستيلاء قهرًا مع بقية شروط الإمامة». وانظر: الأحكام السلطانية للفراء ص (140)، والأحكام السلطانية للماوردي ص (19)، وتحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك للطرسوسي ص (28).
(5) انظر «المجموع» للنووي (20/150).
(6) «الاعتصام» (2/126).
(7) جاء في «حاشية ابن عابدين» من كتب الحنابلة (1/548): «(قوله: ويُكرَه تقليد الفاسق) أشار إلى أنه لا تشترط عدالته، وعدَّها في المسايرة من الشروط, وعبَّر عنها تبعًا للإمام الغزالي بالورع. وزاد في الشروط: العلم، والكفاية. قال: والظاهر أنها- أي: الكفاءة- أعم من الشجاعة، تنتظم كونه ذا رأي وشجاعة كي لا يجبن عن الاقتصاص وإقامة الحدود والحروب الواجبة وتجهيز الجيوش، وهذا الشرط يعني الشجاعة مما شرطه الجمهور. ثم قال: وزاد كثيرٌ الاجتهادَ في الأصول والفروع، وقيل: لا يُشترَط ولا الشجاعة؛ لندرة اجتماع هذه الأمور في واحد، ويمكن تفويض مقتضيات الشجاعة والحكم إلى غيره أو بالاستفتاء للعلماء».
(8) «الأحكام السلطانية» للماوردي ص73.
(9) «الأحكام السلطانية» للماوردي ص6.
(10) «مقدمة ابن خلدون» ص139.
(11) قال الإمام الجويني في «غياث الأمم» ص (90): «وإذا تبين الغرض من نصب الإمام لاح أن المقصود لا يحصل إلا بذي كفاية ودراية…». وجاء في «حاشية الدسوقي» من كتب المالكية (4/298): «اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة: إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها، وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة؛ إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين، وإما بيعة أهل الحل أوالعقد، وهم مَن اجتمع فيهم ثلاثة أمور: العلم بشروط الإمام، والعدالة، والرأي. وشروط الإمام: الحرية، والعدالة، والفطانة، وكونه قرشيًّا، وكونه ذا نجدة وكفاية في المعضلات…».