الأزهر جامعًا وجامعةً أين قيادته للأمة في هذه الأزمة؟ وهل يُكتفى منه بالقول أنه على مساحة متساوية ومتقاربة من جميع التيارات السياسية؟ أود توجيه رسالة إلى الإمام الأكبر لتذكيره بدوره الريادي والتوجيهي في إطفاء هذه الفتنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
صاحب الفضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر حفظه الله:
أتشرَّف برفع رسالتي هذه إلى مقام فضيلتكم، وقد جعلكم الله على رأس هذه المؤسسة العريقة، التي تضرب بجذورها في أعماق تاريخ مجيد، يمتد إلى ما يزيد على ألف عام، وتمتد امتدادات أفقية في واقعنا المعاصر، لتصبح بعد الحرمين الشريفين مهوى أفئدة المسلمين، ومحَطَّ رجائهم، فالأزهر وإن كان مصريَّ الموقع فإنه عالمي الرسالة والأهداف.
وإذا كان العالم العربي هو قلب العالم الإسلامي، فإن مصرَ هي قلب العالم العربي، وإن الأزهر هو القلب الديني النابض لمصر، ولما كان فضيلتكم على رأس هذه المؤسسة، فقد اختزلت القيادة الدينية للأمة كلها اليوم في شخصكم الكريم، أو كادت، وأصبحت الكلمة التي يُجريها الله على لسانكم هي كلمة الإمامة إلى الأمة في هذا الوقت العصيب.
صاحب الفضيلة: لقد أمرنا الله جل وعلا بطاعة أولي الأمر منا ومناصحتهم، وأولوا الأمر كما تعلمنا من أصحاب الفضيلة العلماء: الأمراء، والعلماء. فللعلماء القيادة الدينية، وللأمراء القيادة السياسية، ولما كان الأمراءُ مطالبين بالحكم بالشرع، وأبصر الناس به هم العلماء، فقد صار العلماء هم أمراء الأمراء. ورحم الله الإمام الجويني القائل: «إذا كان سلطانُ الزمان لا يبلغ مبلغَ الاجتهاد، فالمتبوعون العلماء، والسلطان نجدتهم وشوكتهم، والسلطان مع العالم كملك في زمان نبيٍّ، مأمور بالانتهاء إلى ما ينهيه إليه النبي»(1).
إن الملوك يحكمون على الورى *** وعلى الملوك يحكم العلماء
المحنة التي تمرُّ بها مصر يا صاحب الفضيلة محنَة كبيرةٌ، وأخطر ما فيها ما يلوح في الأفق، أو ما يلوح به من إراقة محتملة للدماء، وقد حفظنا عن نبينا ﷺ أن زوالَ الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم بغير حق، وأن حرمةَ المسلم عند الله أعظمُ من حرمة الكعبة.
وندائي في رسالتي هذه يا صاحب الفضيلة لا علاقة له بالنزاعات السياسية، أو المناورات الحزبية، أو التراشقات الإعلامية، وإنما يتمحور حول حقيقة لا ينبغي أن يختلف فيها، ولا أن يختلف عليها، وهي عصمة الدماء والأموال والأعراض، وهي العصمة التي قررتها الشريعة بالإيمان أو بالأمان، فهي للمُؤمِنين والمؤمَّنِين، للمسلمين والمسالمين على حدٍّ سواء، وسعيِ أهل العلم وحملة الشريعة لحقنها، ودورِ المؤسسة القائدة في ذلك.
وخلاصة ندائي يا فضيلة الإمام الأكبر تتمثل فيما يلي:
السعي لإصلاح ذات البين بين الفريقين: القيادة والمعارضة، فقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات: 9]. وأن تشكل لذلك في مشيخة الأزهر خلية إدارة أزمة، وأن تظلَّ في حالة انعقاد دائم حتى يأذن الله عز وجل بانقشاع هذه الغمة، قد يستعان على ذلك عند الاقتضاء ببعض المؤسسات ذات القبول الدولي، كمنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها، وقد تعلمنا من أمثال فضيلتكم أن عبودية إصلاح ذات البين تفضل عبودية الصيام والصلاة والصدقة؛ لحديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟». قالوا: بلى. قال: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْـحَالِقَةُ». ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: «هِيَ الْـحَالِقَةُ؛ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ»(2).
إصدار بيان إلى الأمة تترقبه كما تترقب كلمة القيادة السياسية، يؤكد على حرمة الدماء والأموال والأعراض، ويتضمن التفريق بين التظاهر السلمي والعنف، وبين التظاهر السلمي والحيلولة بين المسئولين ودواوين عملهم، وإغلاقها دونهم بالجنازير وبحشود البلطجية، واعتبار استفاضة البلاغ بهذا البيان جزءًا من الأمن القومي في مصر.
تفعيل هذا البيان- بالتنسيق مع كل من الحكومة ومؤسسة الرئاسة- وذلك بالتعميم على جميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة: بإذاعة هذا البيان عقب كل نشرة أخبار، وفي ثنايا البرامج التي تجتذب أكبر قدر من المشاهدين، ونشره في العناوين الرئيسة للصحف والمجلات، واستضافة المعلقين على هذا البيان من العلماء وقادة الرأي.
التعميم من خلال وزارة الأوقاف على أصحاب الفضيلة أئمة المساجد بجعل خطبة الجمعة وموضوعات المحاضرات والدروس العامة حول هذه القضية، أي أن تكون شارحة لهذا البيان ومعلقة عليه، والتعميم عليهم بالقنوت في الصلوات الخمس دفعًا لهذه النازلة.
توجيه أصحاب اليسار بإعداد ملصقات دعائية ولافتات تعريفية تدور في نفس الفلك، وتؤكد على حرمة الدماء والأموال والأعراض، وذلك على غرار الدعاية الانتخابية، وإغراق الشارع المصري بها؛ بحيث تكون مرمى بصر الناس حيثما شرقوا أو غربوا. ولفضيلتكم أن يتخيل المصري الذي تحاصره كلما شرق أو غرب تحذيرات النبي ﷺ وتعظيمه لأمر الدماء، كقوله ﷺ: «كُلُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ». أو قوله ﷺ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا …. فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
أرجو أن يكون هذا بعض إسهام هذه المؤسسة العريقة في إطفاء هذه الفتنة وكسر شوكتها، وأرجو أن يُكلِّل الله جهودها بالنجاح، ليكون ذلك وسامًا على صدرها ما بقي الليل والنهار، وليضاف إلى سجل مناقبها التاريخية، وموازين حسنات القائمين عليها.
وتقبل يا صاحب الفضيلة تحيات مُحبِّكُم وتمنياته لفضيلتكم بالتوفيق والسداد والعُمر المديد في طاعة الله. والله الموفق.
___________________
(1) «غياث الأمم» (1/275).
(2) فقد أخرج ابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «حرمة دم المؤمن وماله» حديث (3932) أن عبد الله بن عمر بن الخطاب ب قال في الكعبة: ما أعظمك وأعظم حُرمَتك! والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك.
(3) أخرجه أحمد في «مسنده» (6/ 444) حديث (27548)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في إصلاح ذات البين» حديث (4919)، والترمذي في كتاب «صفة القيامة والرقائق والورع» باب «ما جاء في صفة أواني الحوض» حديث (2509) من حديث أبي الدرداء. وقال الترمذي: «هذا حديث صحيح».