في الساحة الدعوية جدال حولَ ولاية الدكتور مرسي، وعمَّا إذا كان يحكُم بولاية شرعية أم لا؛ فنُسب إلى بعض قيادات الدعوة السلفية نفيُ هذه الولاية الشرعية عن مرسي، إلا إذا قُصِد بذلك المعنى اللغوي البحت كولاية ضابط الشرطة، أو ناظر المدرسة ونحوه.
ووجه نفي المعنى الشرعي للولاية عن الدكتور مرسي أن عقدَه لا يتفق مع عقد الإمامة العظمى المعروف في الفقه الإسلامي، فشروطُ الولاية العظمى أن يكون الإمام مجتهدًا، عدلًا، ذا نجدةٍ وكفايةٍ، يختاره أهلُ الحلِّ والعقد، ويكون اختيارُه مدى الحياة، فلا يجوز عزلُه ولا يجوز له أن يعزل نفسه إلا لمسوغ شرعي، ولا يجوز الخروج عليه، ويجمع في يده كلُّ السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهو وكيل عن الأمة في ذلك كله.
أما عقدُ مرسي فقد تولَّى في ظل نظام دستوري، بشرط أن يكون رئيسُ الجمهورية مصريًّا، قد تجاوز الأربعين من عمره، ويختاره الشعب بالأغلبية، لمدة محدودة هي أربع سنوات، قابلة للتجديد مرة واحدة.
فاختيارُه تمَّ بالانتخاب، ولمدة محدودة أربع سنوات، وولايته تنفيذية، وعليه أن يسمع يُطيع للبرلمان الذي يتولى جانب التشريع، ونحوه. فافترق الأمران.
ثم شبهوا عقدَه مع الأمة بعقد مبارك منها، وأن الفارق الوحيد أن مبارك خان الأمانة ونقض العهد، وأنه يتوسم من مرسي خلافُ ذلك، وأن القاعدة التي تحكم العمل مع كليهما هو قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]. فما تعليقكم على ذلك كله؟ أفتونا مأجورين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فهذه مُدارسة علميَّة مع أحبَّةٍ فضلاء، لا نُكِنُّ لهم إلا المحبة والتقدير، فأرجو أن تدور كلماتنا في فضاءات الأخوَّة الرحبة، والمحبة الخالصة، التي لا يُكدِّرها تعدُّد الاجتهادات ولا تفاوُت الرُّؤى والاستنباطات، وحديثنا سيكون على محورين:
الأول: حولُ عقد الإمامة في ذاته، وعما إذا كان يُفسده تخلُّف صفة الاجتهاد في الأئمة، أو توقيت مدَّة ولايتهم، أو جريان البيعة بالاستفتاء العام وليس ببيعة أهل الحلِّ والعقد، أو كون الولاية على قُطر واحد من أقطار الأمة الإسلامية، وليس على عموم الأمة، إلى غير ذلك مما نرجو أن نُجدِّد بالحديث عنه معالمَ هذا الفقه المغيب عن الواقع منذ عقود طويلة من الزمان.
والثاني: حول تطبيق ذلك على ولاية الدكتور مرسي أيَّده الله.
الأول: حول عقد الإمامة في ذاته:
الإمامة في الاصطلاح الشرعي: هي النيابة عن النبوَّة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. وقد اتفق على هذا المعنى عامَّةُ من تكلم في هذه القضية من الفقهاء. وزاد بعضُهم في تعريفه لها ما يدلُّ على عموم ولاية الإمام؛ بحيث يجب اتِّبَاعُه على المسلمين كافَّةً. قال الماوردي: «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به»(1). وقريب من هذا المعنى ذكره البيضاوي والإيجي وابن خلدون وغيرهم.
ويُبرز هذا التعريفُ السماتِ الأساسيَّةَ في عقد الإمامة، والتي تتمثل فيما يلي:
• كونها نيابةً عن النبوة:
وهذه السمَّة لا تخلع على الأئمة نوعًا من القداسة أو العصـمة، ولا تجعلهم فوقَ المساءلة، ولكنها قيدٌ يكبح جماحَ الأهواء، ويرسم للأئمة معالمَ المشروعية، فلا شرعية لأعمالهم إلا بقدرِ ما تتضمنه من موافقةِ من قاموا في الناس نيابةً عنه؛ فإن خالفوا عن أمره فقدوا سندَ استحقاقهم للولاية، وأصبحت تصرُّفاتهم فيما خالفوا فيه هديه منــعدمة.
• المسئولية عن إقامة الدِّين، وتدبير مصالح المسلمين:
فإقامة الدين وسياسة الدنيا به هو الفارق الأساسي بين نظام الإمامة وغيره من النُّظُم الوضعية المعاصرة التي فصلت بين الدين والدنيا، وساست حياتها بمعزل عن دينها، وحملت الكافة على مقتضى الهوى والشهوة.
• كونها ولايةً عامة:
فهي تشمل جميع الشئون الدينية والدنيوية، وينسحب حُكمها على المسلمين كافة، فلا يشذُّ عنها شأن من الشئون، ولا يخرُج عن ولايتها أحدٌ من المسلمين. وقد قيَّد بعضُ الفقهاء هذا الشرط الأخير بأن ذلك فيما يُمكن الوصول إليه من الأقطار؛ فإن تباعدت الأقطارُ وامتدَّت الأُمَّة إلى أماكن لا يبلغها نظرُ الإمام ساغ التعدُّد في هذه الحالة بقدر ما تقتضيه الضرورة إلى ذلك.
شروط الإمام الأعظم:
لخَصَّ الماورديُّ الشروط التي يجبُ استيفاؤها فيمن يستشرف لهذا المنصب فقال:
«أما أهلُ الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. والثاني: العلمُ المؤدِّي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام. والثالث: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصحَّ معها مباشرةُ ما يدرك بها. والرابع: سلامة الأعضاء من نقصٍ يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض. والخامس: الرأي الـمُفضي إلى سياسة الرعيَّة وتدبير المصالح. والسادس: الشجاعةُ والنَّجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو. والسابع: النَّسب وهو أن يكون من قريشٍ؛ لورود النَّص فيه وانعقاد الإجماع عليه»(2). ومن هذه الشروط ما هو متَّفق عليه، ومنها ما هومختلف فيه.
الألقاب التي أُطلقت على القائم العام بأمر المسلمين:
أُطلق على من يتولى ولايةَ المسلمين العامَّة في تاريخنا عدَّةُ ألقاب، منها: الإمامة، والخلافة، وإمارة المؤمنين. وهي جميعًا مترادفة تئول إلى مـعنى واحـد وهــو: رياسة المسلمين العامة التي تخلف النبيَّ صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
وقد كَرِه بعض السلف إطلاقَ لفظ الخلافة على من جاء بعد الحسن بن علي رضي الله عنهما؛ استنادًا إلى ما رواه الترمذيُّ عن سَفِينة من قوله صلى الله عليه وسلم: «الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ»(3).
ولكن الجمهور(4) على جواز إطلاق هذا اللقب على من قام بأمرِ المسلمين القيامَ العام؛ لما رواه البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما؛ عن أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ؛ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»(5).
وأجابوا عن حديث «الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» بأن المرادَ الخلافةُ الكاملة لا مطلق الخلافة. قال البغوي في «شرح السنة»: «لا بأس أن يُسمَّى القائمُ بأمر المسلمين بأمير المؤمنين والخليفة وإن كان مخالفًا لسيرة أئمة العدل؛ لقيامه بأمر المؤمنين وسمع المؤمنين له… إلى أن قال: ويسمى خليفةً لأنه خلف الماضي قبله وقام مقامه»(6).
توليةُ الإمام:
تنعقد الإمامةُ عند أهل السنة والجماعة بأحد طريقين: اختيار أهل الحَلِّ والعَقْد، أو الاستخلاف من الإمام السابق.
وأهل الحَلِّ والعقد: هم العلماء والرؤساء الذين يرجع الناس إليهم في الحاجات والمصالح العامة، ويشترط فيهم كما ذكر الماورديُّ في «الأحكام السلطانية» ثلاثة شروط: العدالة، والعلم، والكفاية؛ فقد قال رحمه الله: «الشروط المُعتبرة فيهم ثلاثة: أحدُها: العدالة الجامعة لشروطها. والثاني: العِلم الذي يُتوصل به إلى معرفة من يستحقُّ الإمامةَ على الشروط المعتبرة فيها. والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلحُ وبتدبير المصالح أقوم وأعرف»(7). ويمكننا أن نضيف شرطًا رابعًا وهو التمثيل، أي أن يكون هؤلاء ممثلين لمختلف أقطارِ الدولة الإسلامية، ليكون الرِّضا بهم عامًّا والتسليم باختيارهم إجماعًا.
أما كيفيةُ تحديد أهل الحَلِّ والعقد فإن الأمر في ذلك واسع، فهو مما تركه الإسلام لاجتهاد كلِّ عصر، لكونه مما تختلف فيه وجوهُ المصلحة باختلاف العصور، وتختلف فيه الفتوى تبعًا لاختلاف وجوه المصلحة واختلاف الزمان والمكان والأحوال، ويمكن معرفة هؤلاء كما قال الشيخ محمد أبو زهرة: «بالرجوع إلى كل إقليم من أقاليم الدولة، فيجبُ على أهالي كلِّ إقليم أن يختاروا فضلاءَهم، وهؤلاء الفضلاء هم الذين يتولون عقدَ الإمامة، وتنعقد الإمامَةُ لمن يتبعه الأكثرية المطلقة من هؤلاء المختارين». على أن يكون ذلك في إطار الشروطِ التي وضعها أهلُ العلم لذلك من العدالة والعلم والكفاية- ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.
ولا نعرفُ في الشريعة نصًّا في تفاصيل اختيار أهل الحَلِّ والعقد، وإنما المقصود أن يكون لجماعة المسلمين- في إطار مرجعية الشريعة- هيمنةٌ على الولاة والأئمة توليةً ورقابةً وعزلًا، وأيُّما وسيلة تَحقَّق بها هذا المقصودُ أمكن اعتبارُها شرعًا.
تعدد الأئمة:
الأصل الذي اتفق عليه جمهورُ أهل السنة والجماعة عدمُ جواز تعدُّد الأئمة في الزَّمن الواحد، سواءٌ اتَّسعت رقعةُ الدولة الإسلامية أم لا. وأجاز بعضُهم ذلك بسببٍ يقتضيه كتباعُدِ الأقطار ونحوه، وإليه ذهب القرطبي، ورجحه البغدادي، وعزاه الجوينيُّ إلى الأشعري والإسـفراييني.
وأطلق بعضُهم القولَ بجواز ذلك، سواء أوُجِد السبب المقتضي أم لم يوجد، وهو قول بعض الكرامية والمعتزلة، وهو مذهب الزيدية من الشيعة.
ووجه ما ذهب إليه الجمهور من المنعِ ما يلي:
• النصوص التي تحرِّم تعددَ الأئمة، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»(8). وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ»(9).
• الإجماع: فقد أجمع أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدمِ جواز تعدُّد الأئمة، وردوا اقتراحَ الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. واتفقت على ذلك كلمةُ السَّلف رضوان الله عليهم، والخلاف المأثور في ذلك ليس خلافًا بين أهل السنة وإنما ينقل عن بعضِ أهل البدع.
أما وجه ما ذهب إليه الفريقُ الثاني من القول بجواز ذلك لسبب يقتضيه فهو الاعتبارات العمَليَّة التي لا يسع الناظرُ تجاهلَها، ولقد كانت هذه الاعتبارات فيما مضى تَباعُد الأقطار، وعُسر امتداد نظر الإمام إلى هذه الأقطار النائية، مع بعد الشُّقة وعسر التواصل عن بُعد، وهذا الاعتبار لم يعد له محلٌّ في هذه الأيام، بعد ما حدث من التقدُّم الكبير في وسائل الاتصال، التي جعلت العالمَ كلَّه أشبه ما يكون بالمنزل الواحد أو القرية الواحدة، مما يسهل مهمَّة الإشراف والمتابعة مهما شطَّ المزار وتباعدت الأقطار.
ولكن الاعتبار الآخر الجديرُ بالنظر في هذه الأيام هو عُسر تطبيق ذلك، أو البداءة به على أقلِّ تقدير، بعد أن تمزَّقت أوصالُ الأُمَّة إلى دولٍ وأقطار شتَّى، ونال منها خصومُها ما خططوا له من تشتيتها وتمزيق أوصالها، وأُعلن في سوادها الأعظم الفصلُ بين الدين والدولة، وحُكمت بالعلمانية منذ عقود طويلة من الزمن، فتشعبت الأهواء، وتفرقت بها السُّبُل عن الصراط المستقيم. ومثل هذا الواقع لا يكادُ يتصور معه الإعلانُ المفاجئ عن عودة الإمامة ونصب الإمام، وإنما يصلحه أن يتداعى كلُّ قطر من جانبهم لإقامة دولة الإسلام، وإحياء ما أماته الناس من شعائره وشرائعه، ثم يبدأ التقارب والتنسيق، ثم التوحُّد مع هذه الأقطار التي تُعلن إسلامَ وجهها لله عز وجل، وقبولها بمرجعية شريعته، وحاكمية وحيِه المعصوم قرآنًا وسنَّةً صحيحة، وهكذا تمضي الأمورُ رويدًا رويدًا، إلى أن يُتمَّ الله نورَه، ويُظهر دينه على الدين كله.
تقييد البيعة وتوقيت الإمامة:
الأصل في عقدِ الإمامة الذي عرَّفه الفقهاء وتعاملت به الأمَّةُ على مدار القرون هو الدوامُ، وأن الإمامَ لا يخرج عن الإمامة إلا لسبب يقتضيه، من نقصٍ في بدنه أو جرح في عدالتِه، على تفصيلٍ طويل في ذلك، نُحيل فيه القارئَ إلى المراجع المتخصِّصَة في الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية.
ولكن ما مدى مشروعيَّةِ توقيت عقد الإمامة من البداية؛ بأن يُبايع الإمام مدَّةً معينة تنحل بعدها عقدةُ إمامته، ويعودُ الأمر مرَّةً أخرى إلى الأمَّة لتُجدِّد اختياره أو لتعدل عنه إلى غيره إذا ترجح هذا الأسلوبُ وسيلةً لكبح جماحِ السلطة، وتمكين الأمة من الهيمنة على حكامها- في إطار مرجعية الشريعة- توليةً ورقابة وعزلًا، ووقايتها من حركات الخروج المسلح التي جرَت عليها في تاريخها ما جرت من الفتن والمفاسد؟
لقد تمهد في كليات السياسة الشرعية أن الإمامةَ عقدٌ من العقود، تصحُّ بما تصحُّ به العقودُ، وتبطل بما تبطل به العقود، وأن طرفَا هذا العقد: الإمامُ والأمة. فعلى الإمام واجبُ حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وعلى الأمة واجبُ الطاعة والنصرة.
وعلى هذا فإن للأمة ممثَّلةً في أهل الحَلِّ والعَقد أو من خلال استفتاء مباشر- وهي الطرف الأصيل في هذا العقد- أن تُبايع بيعةً مشروطة بوقت أو بفعل، كما اشترط الصحابة على عليٍّ رضي الله عنه إقامةَ القصاص على قتلةِ عثمان رضي الله عنه، وكما اشترط عبدُ الرحمن بن عوف على عثمان وعليٍّ أن يعملا بالكتاب والسنة وسيرة الخليفتين، وفي الحديث المشهور: «المؤمنون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا»(10).
ولها أن تُحدَِّد عقدَ التولية بمدة معينة، تطول أو تقصر، تتجَدَّد أو لا تتجدد، كما يقعُ في بعض الدساتير تحديدُ ذلك بأربع سنوات أو خمس ونحوه، وباب ذلك المصلحةُ المرسلة، والمشارطة؛ وفي الحديث: «المؤمنون على شروطهم إلا شرطًا حلل حرامًا أو حرَّم حلالًا».
وممن نصَّ على هذا المعنى من أئمة أهل العلم المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في تعليقه على كتاب «الحسبة» لشيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال: «ولا بأس بتقييد الولاية سنةً أو سنتين أو ثلاث أو أربع أو غير ذلك، لا بأس به فهذا جيد لأنه يفيد… وجعلُ الولاية مقيدةً بسنوات هذا طيب حتى يُختبر وينظر، وكم من إنسان لا نظن أنه أهلٌ فيكون أهلًا، وكم من إنسان يكون بالعكس نظنه أهلًا ويكون غير أهل». وعلل بأن الولاية ليست عقدَ إيجار، والتقدير بحسب المصلحة زادت المدة أو نقصت.
أثر الضرورة على أحكام الإمامة:
هذه هي الصورة الـمُثلى للإمامة والأئمة، وهي شروطٌ وتراتيب تنصرف إلى حالة السَّعة والاختيار، كما أنها- إذا استثنينا شرطًا واحدًا وهو الإسلام- ليسَت شروطَ صحَّة ينعدم العقدُ بتخلُّفها، بل يظل عقدُ الإمامة قائمًا، والقائمون على الأمر يُسمَّون خلفاءَ وأمراءَ، رغم تخلُّف كثير من هذه الشروط، وإن كانت الخلافةُ يومئذ تكون خلافةً ناقصةً، وهي أدخل حينئذٍ في باب الملك منها في باب الخلافة.
ولتفصيلِ القول في أثر الضرورة على عقدِ الإمامة، نُوجز القولَ في جملة القواعد الكليَّة المتفق عليها في هذا الصدد، ثم نُعقِّب ذلك ببيان أثَرِ الضرورة على كل واحدة منها؛ فإن من لم يُفرِّق بين حالَي الاختيار والاضطرار فقد جهل المعقولَ والمنقول! فنقول:
إن المتأمِّلَ فيما قرَّره أهلُ العلم من قواعد بشأن شروط الأئمة، وطرق انعقاد الإمامة لهم يلاحظ ما يلي:
• اتفاقهم على اعتبار جُملةٍ من الشروط فيمن يتصدَّى لهذا المنصب؛ يتحقق بها مقصود الإمامة.
• اتفاقُهم على أن يتمَّ اختيارُه بطريقة تكفُل رضًا الأمة به من ناحية، وتتيح له الشوكة والمنعة اللازمة لهذا المنصب من ناحية أخرى.
• اتفاقهم على أن الغايةَ من الإمـامة أمران: حراسة الدين، وسيــاسة الـدنيا به.
• أن الأصل هو وَحدة الأمة، ووحدة الإمام، إلا لضرورة تقتضي خلافَ ذلك.
ولا شكَّ أنه يجبُ اعتبار ذلك كله في حالة السعة والاختيار، ولكن ماذا عن حالة الضرورة والاقتهار؟!
أولًا: أثرُ الضرورة بالنسبة للشروط التي يجب توافرها في الأمام:
إذا اتُّخذت الضرورةُ صورة تخلف بعض هذه الشروط؛ فقد اتفق الفقهاء على اختيار أصلحَ من وُجد، ثم ينبغي السعيُ بعد ذلك لإصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لابد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها.
فرغم أن العلمَ الذي يبلغ مبلغَ الاجتهاد من الشروط المعتبرةِ عند كثيرٍ من أهل العلم، وقد نصَّ على ذلك غيرُ واحد منهم، كقول الشاطبي رحمه الله: «إن العلماء نقلوا الاتفاقَ على أن الإمامة الكبرى لا تنعقدُ إلا لمن نال رتبةَ الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع»(11). وقول الجويني رحمه الله: «وأما العلمُ فالشرط أن يكون الإمام مجتهدًا بالغًا مبلغ المجتهدين، مستجمعًا لصفات المفتين، ولم يُؤثَرْ في اشتراط ذلك خلاف»(12).
ووجه ذلك أن الإمامَ هو المتبع والأسوة في جميع مجاري الأحكام، فوجب استقلاله بتأدية الأصوبِ شرعًا في الأمور المنوطة به، وإلا لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع؛ وذلك يُشتِّت رأيه ويُخرجه عن رتبة الاستقلال.
إلا أن الأحناف(13) وبعضُ أهل العلم قد خالَفُوا في ذلك، فلم يشترطوا أن يبلغ الإمامُ مبلغَ الاجتهاد؛ وذلك لتعذُّر اجتماع هذا الشرط مع غيره من شروط الإمامة في واحد، فضلًا عن إمكان تفويضِ الإمام غيرَه من المجتهدين في الحكم في الأمور التي تستدعي الاجتهاد، أو الحكم بعد استفتاء العلماء؛ وذلك لأن المقصودَ هو ترتيب الإمامة على وَفق الشَّرعِ، ولا فرق بين أن يعرف حكم الشرع بنفسه، أو بواسطة الرجوع إلى أهل الذكر. وإلى هذا ذهب الغزالي رحمه الله.
يقول الشهرستاني: «ومالت جماعةٌ من أهل السنة إلى ذلك حتى جوَّزوا أن يكون الإمامُ غيرَ مجتهد، ولا خبيرًا بمواقع الاجتهاد، ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهلِ الاجتهاد، فيراجعه في الأحكام، ويستقي منه في الحلال والحرام، ويجب أن يكون في الجملة ذا رأيٍ متين وبصرٍ في الحوادث نافذ»(14).
ويقول الجويني رحمه الله: «فأما القولُ في فقد رُتبة الاجتهاد فقد مضى أن استجماعَ صفات المجتهدين شرطُ الإمامة، فلو لم نجد من يتصدَّى للإمامة في الدين، ولكن صادفنا شهمًا ذا نَجدة وكفاية واستقلالٍ بعظائم الأمور على ما تقدم وصفُ الكفاية- فيتعين نصبُه في أمور الدين والدنيا، وتنفيذُ أحكامه كما تنفذ أحكام الإمام الموصوف بخلال الكمال المراعي في منصب الإمامة، وأئمة الدين وراءَ إرشاده وتسديده، وتبيين ما يشكل في الواقعة من أحكام الشرع.
ورغم أن العدالةَ من الشروط المتَّفقِ عليها عند أهل العلم؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]. وقد نصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ منهم، كقول الجويني رحمه الله: «فأما التقوى والورع فلابد منهما، إذ لا يوثق بفاسقٍ في الشهادة على فلسٍ، فكيف يتولى أمورَ المسلمين كافةً؟ والأب الفاسق مع فرط حدبه وإشفاقه على ولده لا يُعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسقٌ لا يتقي الله؟! ومن لم يقاوم عقلَه وهواه ونفسَه الأمارة بالسوء، ولم ينتهض رأيُه بسياسةِ نفسه، فأنى يصلح لسياسة خطة الإسلام؟!»(15).
ومع هذا فقد يُتنازل عن هذا الشرط عندَ الضرورة، ولا يقدحُ هذا في صحة التولية، ولا في التسمية بالإمام.
يقول الرمليُّ في «نهاية المحتاج»: «فلو اضطر لولاية فاسق جازَ، ولذا قال ابن عبد السلام: لو تعذرت العدالةُ في الأئمة قدَّمنا أقلهم فسقًا؛ قال الأذرعي: وهو متعين إذ لا سبيل لجعل الناس فوضى»(16).
ويقول العزُّ بن عبد السلام: «إذا تفاوتت رُتَب الفُسوق في حق الأئمة قدَّمنا أقلَّهم فسوقًا، مثل إن كان فسقُ أحدِ الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتضرُّع للأموال، قدَّمنا المتضرِّع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع؛ فإن تعذَّر تقديمُه قدمنا المتضرع للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديمُ على الكبير من الذنوب والأكبر، والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها»(17).
ومن وعى درسَ التاريخ أدرك ذلك، فما تحقَّق هذا الشرط منذ انقضاء زمن الراشدين حتى انتهاء الخلافة العثمانية إلا لمامًا ولفترات محدودة!
ورغم أن القُرشيَّة من الشروط المتفق عليها عند جمهور أهل العلم(18)؛ فقد اتفق عليها أهلُ السُّنَّة والشيعة، وجمهور الـمُرجئة وبعض المعتزلة، إلا أنه إذا لم يوجد القرشيُّ المستجمعُ لبقية الشرائط نُصِّب غيرُه من أهل العلم والورع والكفاية.
يقول الجويني: «فإن قيل: ما قولُكم في قرشيٍّ ليس بذي دراية، ولا بذي كفاية إذا عاصره عالمٌ كافٍ تقيٌّ فمن أولى بالأمر منهما؟ قلنا: لا نُقدِّم إلا الكافيَ التقيَّ العالم، ومن لا كفاية فيه فلا احتفال به ولا اعتداد بمكانه»(19).
وقال: «فلو لم نجد قرشيًّا يستقلُّ بأعبائها، ولم نعدم شخصًا يستجمع بقية الصفات، نصبنا من وجدناه عالمًا كافيًا ورعًا، وكان إمامًا منفذ الأحكام على الخاص والعام»(20).
وما هو جدير بالذكر أنَّ ابنَ خلدون رحمه الله يرى أن اشتراطَ القرشيَّة إنما هو لدفعِ التنازع بما كان لقريشٍ من العصبية والغلب، فربط الحكم بهذه العلة، وقال: «يشترط أن يكون الإمام من قومٍ أُولي عصبية قوية غالبةٍ على من معها في عصرها، وأيُّ قوم تحققت فيهم هذه العصبية الغالبة صحَّ أن تكون الإمامةُ فيهم لاجتماع الكلمةِ عليهم، وعدم تشوُّف أحدٌ إلى منازعتهم، وقد نُوقش في هذا بما لا يتَّسع المقامُ لبسطه هنا»(21).
بل قد خالف الخوارجُ وأكثرُ المعتزلة وبعضُ الـمُرجِئة في اشتراط ذلك ابتداءً، فأجازوا الإمامةَ في جميع الناس، لا فرق بين قرشيٍّ وغيره.
هذا، ويُعتبر في تقدير الأصلح ما يُوجبه حكمُ الوقت، فلو كان أحدهما أفقهَ والآخرُ أعرفَ بالحرب نظر ذَوُوا الرأي إلى حكم الوقت؛ فإن مسَّت الحاجة إلى الأفقه لفشُوِّ البدع والأهواء مثلًا قُدِّم الأفقه، وإن كانت الحاجة أدعى إلى الأعرف بالحرب لانتشار الثغور وتحزُّب الأعداء قُدِّم الأعرف بالحرب، وهكذا، إذِ الواجبُ في كل زمان الأصلحُ بحسبه.
ومع أنه يجوزُ تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلحَ الموجود، فيجب مع ذلك السعيُ في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لابد لهم منه في أمور الولايات والإمارات ونحوها، كما يجبُ على الـمُعسر السعيُ في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يُطلب منه إلا ما يقدر عليه.
ثانيًا: أثر الضرورة بالنسبة لطريق الاختيار:
الأصل أن الإمامةَ تنعقد عند أهل السنة من وجهين: اختيار أهل الحَلِّ والعقد، أو العهد من الإمام السابق. على خلافٍ في هذا العهد: هل هو اختيارٌ نهائي أم مجرد ترشيح، وتلك أحكامُ السعة والاختيار، وللضرورة اعتبارُها كما هو ظاهر.
فإذا اتخذت الضرورة صورة الانقضاض على السلطة، كما لو تغلب ذو شوكة وأمسك بزمام الأمور، فقد قال العلماء بإمامةِ هذا المتغلِّب للضرورة، ولو كان فاسقًا أو جاهلًا أو عبدًا، بل قال بعضُهم بإمامته ولو كان صبيًّا أو امرأة، رغم أنه لم يستوفِ شروطَ الإمامة، ولم تُعقد له البيعة بطريق صحيح، ما أقام في الناس كتابَ الله؛ وذلك دفعًا للفتنة التي تنشأ من منازعته، وتصحيحًا لعقوده وتولياته.
ولم يستمسك العلماءُ في هذا المقام إلا بشرطِ الإسلام، فهو وحدَه الذي اتفقت الكلمة على عدم الترخُّص فيه بالنسبة لأئمة المسلمين بحالٍ من الأحوال؛ لأن الإمامةَ لا تُعقد لكافرٍ أبدًا لا طوعًا ولا كرهًا.
قال أحمد رحمه الله: «ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفةً وسُمِّي أميرَ المؤمنين لا يحلُّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا عليه، برًّا كان أو فاجرًا، فهو أمير المؤمنين»( 22).
وقال الشافعي: «كل من غلب على الخلافة بالسَّيف حتى يسمى خليفةً ويجمع الناس عليه فهو خليفة»( 23).
وقال النووي: «أما الطريقُ الثالثُ فهو القهرُ والاستيلاء، فإذا مات الإمامُ فتصدى للإمامةِ من جمَعَ شرائطها من غير استخلافٍ ولا بيعةٍ، وقهَر الناسَ بشَوْكَتِه وجنوده- انعقدت خلافتُه، لينتظم شملُ المسلمين؛ فإن لم يكن جامعًا للشرائط، بأن كان فاسقًا أو جاهلًا فوجهان؛ أصحُّهما انعقادُها لما ذكرناه، وإن كان عاصيًا بفعله»(24).
وسئل سهلُ بن عبد الله التَّستُري: ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا وهو إمام؟ قال: «تُجيبه، وتؤدي إليه ما يُطالبك من حقه، ولا تنكر فعاله، ولا تفرَّ منه، وإذا ائتمنك على سر من أسرار الدين لم تفشه»(25).
ولا شكَّ أن هذه الحالة تُعَدُّ استثناءً من الأصل وهو البيعة من أهل الحَلِّ والعقد، إعمالًا لقاعدة الضرورة وهي تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.
وقد تُتَّخذ الضرورة صورةً تُخلِّفُ بعضَ شروط أهلِ الحَلِّ والعقد، فلا تُستوفى فيهم الشروط التي ذكرها أهلُ العلم فيهم من العلم والعدالة، لاعتباراتٍ تتعلق بتركيبة المجتمع ومكوناته الثقافية. وعندئذ يدقُّ النظر؛ ففي المجتمعات ذات التعددية الثقافية والسياسية يتقاسمُ الحَلَّ والعَقْدَ فيها أخلاطٌ من ذوي المشارب المختلفة، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، كانوا طرائق قددًا، وإقصاء هؤلاء عن الحلِّ والعقد وتجاهل مشاركتهم فيه ينطوي على مفاسد جمة، ويفضي إلى مآلات وخيمةِ العواقب، من بقاء الاضطراب والتشرذُمِ، ومزيد من إثارة الفتن والقلاقل، ولا تستوي معه سفينةُ البلاد على شاطئ أبدًا.
ومن ثمَّ فلابد من التنبيه على أن حديثَ الماوردي وغيره من أهل العلم وشروطَهم في أهل الاختيار إنما يكون في حالة السَّعَةِ والاختيار، وقلَّ أن توجد مثل هذه الحالة في واقعنا المعاصر؛ فإن كثيرًا من ديار الإسلام تعيش كما أسلفنا حالةً من التعددية الدينية والثقافية والسياسية، فلم تتمحَّض لأهل الدين وحدَهم، ويوجد فيها من بعض مسلمة الدار من انحازوا إلى العلمانية، وله خصومة كبرى مع الشريعة ودعاتها، سواء أكان ذلك بجهالةٍ وسوءِ تأويل، أم كان عن إصرارٍ وعنادٍ ومشاقَّة، وهؤلاء قد أصبحوا واقعًا معيشًا، شئنَا هذا أم أبينا، وتجاهلُ إشراكَهُم في الحَلِّ والعقد يمنع سفينةَ الوطن من أن تستوي على الجُوديِّ.
فلا مناص من صحيفة مدينة(26) جديدة، أو من عهدةٍ وطنية تجمع بين هؤلاء جميعًا على مشتركٍ من الخير والصالحِ العام، ويكون لأصحابها على اختلاف تنوُّعَاتهم وانتماءاتهم الفكرية والمنهجية مشاركةٌ في الحَلِّ والعقد، لا بديلَ من ذلك إلا بقاءُ التَّشرذُمِ والتناحر، وشيوعُ الفتن وانتشارُ الحرائِق، وتلك أحكام الضرورة والاقتهار التي يُترخَّص معها ما لا يُترخص في غيرها.
ثالثًا: أثرُ الضرورة بالنسبة لمقاصد الإمامة:
سبق في مقاصدِ الإمامة أنها لجمعِ كلمة المسلمين، وحراسة الدين، وسياسة الدنيا به، ومن هُنا فُرِض نصبُ الأئمة ووجبت لهم على الأمة الطاعةُ والنُّصرة، فإذا خرج الإمام عن مقصود الإمامة، فلم تجتمع به كلمة المسلمين ولم يحرس به الدين، ولم تدبَّر به مصالح المسلمين وفقًا لما أنزل الله، فهل تنحل بذلك عقدةُ إمامته؟ وتصبح الأمة في حلٍّ من بيعته؟ سواء في ذلك أقُلنا بكفره أو بإسلامه.
الذي يبدو لي- والله أعلم- أنه لابد أن يفرق في ذلك بين ما جرَى مجرَى العثرة والفترة، وبين ما يُعتبر منهجًا مطَّردًا وسنةً دائمة.
فما جرى مجرى العثرات والفترات لا تنحلُّ به عقدةُ الإمامة لعدم انتقاض مقصودها به.
وأما ما جرى مجرَى السنة الثابتة والقواعد المستقرة بحيث يتحوَّل به هذا الزيغ إلى عقائدَ راسخةٍ وأحكام ثابتة- فلا وجهَ للقول باستمرار الإمامة معه، وقد انتكست به أمورُ الدين، واختلت به أحوالُ المسلمين، وهو نقيضُ ما يقصد من الإمامة، وقد تمهَّد في قواعد الشرع أن العقدَ يبطل إذا كان يُحلُّ حرامًا أو يُحرم حلالًا؛ وذلك مما عُلم من الدين بالضرورة.
وإن الفقهاءَ ما قالوا بإمامة المتغلِّب، وترخصوا في كثيرٍ من الشروط التي يجب اعتبارُها في الأئمة وفي الطريقة التي يجب أن تتبع في اختيارهم- إلا لِـما يحققه هذا المتغلِّب من مقاصد الإمَامة كإقامة الحدود، وسدِّ الثغور، والجهاد في سبيل الله، والحكمِ بين الناس بما أنزلَ الله، ونحو ذلك.
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لابد من إمامة بَرَّةٍ كانت أو فاجرة». قيل: البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ فقال: «تُؤمن بها السُّبُلُ، وتُقام بها الحُدود، ويجاهد بها العدوُّ، ويقسَّم بها الفيء»(27).
أما إذا لم يبقَ من ذلك شيءٌ على رسم الشريعة، وتجاوَزَ الأمرُ حدودَ المفاسد الجزئية والمظالم الفرديَّة، وبلغ مبلغَ الفصلِ بين الدِّين والدَّوْلَة، فهنا يأتي قولُ الجوينيُّ رحمه الله: «فأمَّا إذا تواصلَ منه العصيانُ، وفشا منه العدوانُ، وظهر الفسادُ، وزال السَّدادُ، وتعطَّلت الحقوقُ، وارتفعت الصِّيَانةُ، ووضحت الخيانة؛ فلابدَّ من استدراك هذا الأمر المتفاقِم؛ فإن أمكَنَ كفَّ يده وتوليةَ غيره بالصِّفات المعتبرة، فالبدارَ البدارَ، وإن لم يكن ذلك لاستظهاره بالشَّوكة إلا بإراقة الدِّماء، ومصادمة الأهوال؛ فالوجه أن يُقاس ما النَّاس مدفوعون إليه ومبتلون به بما يفرض وقوعه؛ فإن كان النَّاجز الواقع أكثر مما يتوقع؛ فيجب احتمال المتوقَّع، وإلا فلا يسوغ التَّشاغل بالدَّفع، بل يتعيَّن الصَّبر والابتهال إلى الله تعالى»(28).
وعلى هذا فإذا جرى الزيغُ مجرى القانون المتبع والشريعة الملزمة: تنعقد عليه البيعةُ من البداية، ويُحمَل عليه الناسُ كافَّةً، ويحرسه الإمام بما له من شوكة ومنعةٍ، ويحال به بين الأمة وبين التحاكم إلى الشريعة المطهرة؛ فقد انتقض مقصودُ الإمامة قطعًا، وانحلَّت عقدتها حتمًا، ولكن انخرام الشرعية لا يعني حتميَّة المنابذة الفورية؛ فإن ذلك مناطه تُوفر القدرة وغلبة المصلحة، ويرجع في تقدير ذلك إلى أهل الحَلِّ والعقد في جماعة المسلمين.
يقول الجويني رحمه الله: «ومما يتصل بإتمام الغرض في ذلك أن المتصدِّي للإمامة إذا عظُمَت جنايته، وكثرت عاديته، وفشا احتكامه واهتضامه، وبدت فضحاته، وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياعُ البيضة، وتبدُّد دعائم الإسلام، ولم نجد مَنْ ننصِّبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة، فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا؛ فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سببًا في ازدياد المحن وإثارة الفتن، ولكن إن اتَّفق رجل مطاعٌ ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسبًا؛ آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه، فَلْيمضِ في ذلك قُدُمًا. والله نصيره على الشرط المقدَّم في رعاية المصالح، والنظر في المناجح، وموازنة ما يدفع، ويرتفع بما يتوقع»(29).
أثر الضرورة بالنسبة لوحدة الأمة ووحدة الإمام:
الأصلُ- كما سبق- هو وحدة الأمة ووحدة الإمام، فإذا تشعَّبت الأهواءُ وتفرقت الكلمة، واستقلَّ كلُّ قُطرٍ بإمام، فمن أقام في قُطره كتابَ الله فإنه تجبُ طاعته، ويُصبح هو الإمام في هذا القطر، وتحرم منازعته فيه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والسنة أن يكون للمسلمين إمامٌ واحد، والباقون نُوَّابه، فإذا فُرِضَ أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجزٍ من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدَّة أئمة. لكان يجبُ على كلِّ إمام أن يقيم الحدودَ، ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماءُ: إن أهل البغي يَنْفُذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارةَ وصاروا أحزابًا لوجب على كل حزب فعلُ ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرُّق الأمراء وتعددهم»(30).
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في شرح قول صاحب «الأزهار»: «ولا يصح إمامان»: «وأما بعد انتشارِ الإسلام واتساع رقعته وتباعُدِ أطرافه فمعلومٌ أنه قد صارَ في كل قطر- أو أقطار- الولايةُ إلى إمامٍ أو سلطان، وفي القُطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قطر الآخَر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته- فلا بأس بتعدُّد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعةُ لكل واحدٍ منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي يُنفِّذ فيه أوامرَه ونواهيه، وكذلك صاحبُ القُطر الآخر، فإذا قام من يُنازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايتُه وبايعه أهلُه كان الحكم فيه أن يُقتل إذا لم يتُب.ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعتُه ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يُدرى من قام منه أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذا تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد. فاعرف هذا، فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدلُّ عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار. ومن أنكر هذا فهو مُباهت لا يستحقُّ أن يُخاطب بالحجَّة لأنه لا يعقلها»(31). اهـ.
وقال الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: «الأئمة مُجمِعُون من كل مذهب على أن من تغلَّب على بلد- أو بلدان- له حكمُ الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحدٍ ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام لا يصحُّ إلا بالإمام الأعظم»(32). اهـ.
وقال العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْـجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(33): «قوله: «عن الطاعة» أي طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه، وكأن المرادَ خليفة أي قطر من الأقطار، إذ لم يُجمِع الناسُ على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية، بل استقلَّ أهلُ كل إقليم بقائم بأمورهم، إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته»(34).
وعلى هذا فإنه وقد انعقدت البيعةُ لمن تولَّى أمرَ هذه البلاد- فقد أصبحَ واجبَ الطاعة ونافذَ الولاية في حدود طاعة الله عز وجل، وفي حدودِ الدستور والمبادئ الذي تمَّ اختياره على أساسها، سواء سُمِّي رئيسًا للجمهورية، أو سمي موظفًا بدرجة رئيس، أو سمي أميرًا للمؤمنين؛ فإن العبرة بالحقائق والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
فلا يُعتبر تكوين جماعات معارضة تتولى مباشرة فريضة الحسبة خروجًا عليه؛ لأنه قد بُويع على هذا الأساس، فضلًا عن مشروعية ذلك ابتداءً من قبل الشرع المطهر، ولا تُعتبر الدعوة إلى التظاهرات أو تكوين الأحزاب أو الجماعات القانونية خروجًا عليه لأنه قد بُويع على هذا الأساس، وأجاز للناسِ في ولايته حُريَّة التجمعات والأحزاب والاحتجاجات السلمية ونحوه، ولكن المحظور هو التخريب والتدمير والتآمر، ومظاهرة المحاربين من معسكر الكارهين للشريعة على التمرُّد والتخريب، والانقلاب على الشرعية خارجُ الأطر التي تقرر الاعتراف بها، والسماح بالحركة في إطارها، والحزم أن يُعان على ما تقلَّده من مهامٍ جسامٍ في تسيير أمور البلاد، لاسيما وقد تولى هذه المهمة في أحرج ظروفٍ يمكن أن يتقلَّد فيها مسئولٌ ولايةً عامَّةً.
وبعد هذا الاستعراض لأهم ما يتعلق بموضوع سؤالنا من فقه الإمامة ومقاصدها وقواعدها الكلية نعود لنسأل أنفسنا: هل تخلف شرط الاجتهاد في القائم على الأمر، وتوقيت انتخابه بأربع سنوات، وكون الاختيار قد جرى من خلال الاستفتاء العام وليس من خلال أهل الحَلِّ والعقد، وكون الولاية على قطر واحد من أقطار الأمة الإسلامية، هل يقدح شيء من ذلك في ولايته فلا يجعلها ولاية شرعية تأخذ من أحكام الولاية العظمى ما يناسبها؟
لقد استعرضنا ذلك كله، ووجدنا له من ضرورات الواقع وكلام أهل العلم ما يسوغه، ففيم يختلفون؟! وعمَّ يتساءلون؟!
ففي تخلُّف شرط الاجتهاد أوردنا من كلام أهل العلم ما يُجلي ذلك، وحسبك قول الغزالي: «وليست رتبةُ الاجتهاد مما لابد منه في الإمامة ضرورة، بل الورع الداعي إلى مراجعة أهل العلم فيه كافٍ، فإذا كان المقصودُ ترتيبَ الإمامة على وفق الشرع، فأيُّ فرق بين أن يعرف حكم الشرع بنظره، أو يعرفه باتِّباع أفضل أهل زمانه»(35).
ومن وعى درسَ التاريخ أدرك ذلك، فمتى تحقق هذا الشرطُ في خُلفاء الأمة منذُ زمن الإمام أحمد بل وقبله إلى انتهاء الخلافة العثمانية؟!
وفي توقيت الولاية بمُدَّة أوردنا أنها عقد من العقود يجوز تقييدها بما تُقيَّدُ به سائر العقود، وسقنا كلام الشيخ بن عثيمين رحمه الله في تعليقه على كتاب «الحسبة» لابن تيمية، حيث قال: «ولا بأس بتقييد الولاية سنةً أو سنتين أو ثلاث أو أربع أو غير ذلك، لا بأس به فهذا جيَّدٌ لأنه يفيد… وجعل الولاية مقيدة بسنوات هذا طيِّبٌ حتى يختبر وينظر، وكم من إنسانٍ لا نظن أنه أهلٌ فيكون أهلًا، وكم من إنسان يكون بالعكس نظنه أهلًا ويكون غير أهل». وعلَّل بأن الولاية ليست عقد إيجار، والتقدير بحسب المصلحة زادت المدة أو نقصت.
وفي كَوْن الاختيار قد جرَى من خلال الاستفتاء العام وليس من خلال أهل الحَلِّ والعقد؛ فقد بينا أنَّ آليات الشورى من مسائل الاجتهاد، وأن كيفية الرجوع إلى الأمة ومراتب هذا الرجوع من التراتيب الإدارية، ومسائل السياسة الشرعية التي تدور في فلك الموازنة بين المصالح والمفاسد، والأمر في ذلك واسع، وحيثما كانت المصلحةُ فثمَّ شرعُ الله، ويقرِّر الخبراء فيه ما يشاءون.
ويُمكن أن يُستدلَّ للاستفتاء العامِّ بما كان من عبد الرحمن بن عوف عندما عُهد إليه بمهمة المفاضلة بين عليٍّ وعثمان، واختيار أحدهما للخلافة، ونترك ابن كثير يروي لنا ما قام به رضي الله عنه في هذا الصدد، يقول ابن كثير رحمه الله: «ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رءوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا مثنى وفرادى ومجتمعين، سرًّا وجهرًا، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمَّار والمقداد أنهما أشارا بعليِّ بن أبي طالب. ثم بايعَا مع الناس»(36).
ومن ناحيةٍ أخرى فإن هذه الملايين التي تمَّ استفتاؤها وعبرت عن اختيارها للقائم على الأمر في الوقت الراهن، قد تضمنت فيما تضمنت أهلَ الحَلِّ والعقد؛ ففي جولة الإعادة صوَّت حملَةُ المشروع الإسلامي جميعًا لمرسي، ولا أعرف من صوَّت منهم للمرشح الآخر الذي كان ولا يزال يمثل استعادةً لنظام المخلوع، واستنساخًا جديدًا له.
وفي كون الولاية على قُطرٍ واحد من أقطار الأمة الإسلامية، تحدثنا عن تعدُّد الأئمة وأوردنا كلامَ شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني والصنعاني وغيرهم، وأن هذه مما تُحتِّمُه الاعتبارات العمليَّة في الوقت الراهن، وقد تمهد أن القدرة شرط في التكليف، وهذا وواقع الأمَّة منذ الدولة العباسية إلى أفول شمس الخلافة العثمانية.
تطبيقُ الأحكام السلطانية الماضية على الولاية الراهنة:
لا يزعم أحدٌ أن الولايةَ الراهنةَ في مصر هي ولايةُ الخلافة، ولا أن القائم عليها هو خليفة المسلمين، فلا زَعَم ذلك لنفسه، ولا زعمه له أحدٌ من شيعته وحزبه، فلا وجهَ لاستدعاء أحكام الإمامة العظمى والمقارنة بينها وبين هذه الولاية، وإظهار تقاصر إحداهما عن الأخرى.
ولو أن القائم على الأمر كان قد زعم لنفسه منصبَ الخلافة، أو تشوَّف إلى ذلك، لتفهم المراقبُ المبادرةَ إلى نفي ذلك، دفعًا للإيهام ورفعًا للالتباس.
بل هَبْهُ ادعى ذلك فعلًا على مستوى ولاية جزئية في قطرٍ من الأقطار، لتكون نواة لخلافة قادمة ما كان على ذلك بملوم؛ لأن الخلافة غائبة، ولم ينازع بهذه الدعوة أحدًا، ولم يغتصب بها سلطةً من أحد، وإنما هي مجرَّد دعوة إلى التآخي والتعاضد، يقبل بها من يقبل، ويرفضها من يرفض، ولكنَّ إيمانَ كثير من الناس في الوقت الراهن قد لا يستوعب ذلك، والأصل أن يحدث الناس بما يعقلون، وأن يخاطبوا بما يطيقون، حتى لا تكون فتنةٌ، وحتى لا يكذب الله ورسوله.
ولهذا فإنه لا يجمل سياسةً ولا يصلح شرعًا نزع جميع أحكام الإمارة الشرعية عن هذه الولاية، والتسوية بين مبدأ العلاقة بها والعلاقة بولاية سائر طواغيت الأرض على شعوبهم؛ سواء أكانوا من المسلمين أم من غير المسلمين، وإنما العدلُ في هذا أن يقال: هذه ولاية شرعية قُطرِيَّة، تُنشئ للقائمِ عليها حقَّ الطاعة والنصرة، فيما كان لله طاعةً وللمسلمين مصلحةً، أي في حدود الضوابط الشرعية التي رسمتها الشريعةُ في باب الولاية، وفي حدود العقد الذي بُويع على أساسه من ناحية أُخرى.
وليس في تأصيلِ كونها ولايةً شرعية خطرٌ على مُعارض، أو انتقاصٌ من حرية، أو تكريسٌ لقهر أو استبداد؛ فقد بُويع على دستور أتاح لعموم الناس الحقَّ في الاحتساب، والتجمُّعِ، وتكوينِ الجمعيات، وتأسيسِ الأحزاب، والتظاهراتِ السلمية التي تنأى عن التخريب والعنف. فهي ولايةٌ شرعية مشروطة بذلك كله، فما الذي نتطلَّع إلى الحرص على تأمينِه من الحقوق أكثر مما نُصَّ عليه، وما الذي نحذره من المعوقات حتى نبادر إلى الاحتياط لدفعه من خلال إثارة هذه القضية؟!
إن المحذورَ الأكبرَ في ظلِّ الولاية الراهنة هو التآمرُ والخيانة، والانقلاب على الشرعية بالبلطجة والتشبيح- وهو أمر لا تُقرِّه شريعةٌ سماوية، ولا دساتير وضعية، وقد برَّأ اللهُ أهل الدين جميعًا من ذلك، ولا يستبيح هذا إلا من لا خَلاق له من الفلول والبلطجية والشبيحة.
أما التسوية بين عقد مرسي وعقد مبارك فهو مما يحتاج إلى مراجعة جِذرية؛ فولاية مبارك كانت ولايةً منعدمة؛ فقد عقدت على تحكيم القوانين الوضعية، والفصل بين الدين والدولة، وولاية مرسي عقدت على تحكيم الشريعة، ونصرة المشروع الإسلامي، الذي حمله برنامجه الانتخابي واختير على أساسه، فافترق العقدان، وتباين السبيلان.
فضلًا عن أن هذه التسوية تنطبقُ على جميع ساسة العالم، إنَّ الجاليات المسلمة في الغرب تتعامل بنفس المنطق مع حكومات هذه الأقطار، وما هم على ذلك بملومين، ففي عموم قوله صلى الله عليه سلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ الله إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»(37) دليل على ذلك، فهل يصلح التسوية في أُسِّ العلاقة بين حملة المشروع الإسلامي وغيرهم من ساسة العالم وقادته في المشرق والمغرب؟!
ألا تُنشئ لحيةُ مرسي، وحفظُه للقرآن، وحملُه للمشروع الإسلامي، وجهادُه السياسي فيما مضى خصوصيةً علاقة به، تجعل له ولايةً شرعيَّةً تميِّزه عن غيره من بقية الساسة والقادة؟!
والإشارة إلى اللحية وحفظ القرآن لمجرَّد التنبيه على ضرورة التفرقة بين أصحاب الدين وغيرهم، وقد قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35، 36].
ثم ماذا يُراد بإثارة هذا كله؛ وهو لا يُفضي إلا إلى إضعافِ علاقة أهل الدين بقيادتهم السياسية، في الوقت الذي تكثُر فيه السهام على مؤسسة الرئاسة، ويتداعى إلى حربها كثيرون ممن لا يرقُبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمة؟!
إنها دعوة إلى المراجعة والتدبر، في ضوء أحكام الشرع ومقاصده في باب الإمامة خاصة، وفي سائر أبوابِ الفقه عامَّةً، من قلب لم يخفق إلا بحبِّ إخوانه والدعاء لهم بظهر الغيب.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. والله تعالى أعلى وأعلم.
_______________________
(1) «الأحكام السلطانية» ص5.
(2) «الأحكام السلطانية» ص6.
(3) أخرجه الترمذي في كتاب «الفتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» باب «ما جاء في الخلافة» حديث (2226)، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(4) جاء في «حاشية ابن عابدين » (1/ 548) من كتب الحنفية « (قوله فالكبرى استحقاق تصرف عام على الأنام) أي على الخلق، وهو متعلق بتصرف لا باستحقاق لأن المستحق عليهم طاعة الإمام لا تصرفه، ولا بعام إذ المتعارف أن يقال عام بكذا لا عليه. وعرفها في المقاصد بأنها رياسة عامة في الدين والدنيا خلافة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لتخرج النبوة، لكن النبوة في الحقيقة غير داخلة لأنها بعثة بشرع كما يعلم من تعريف النبي، واستحقاق النبي التصرف العام إمامة مترتبة على النبوة، فهي داخلة في التعريف دون ما ترتبت عليه أعني النبوة، وخرج بقيد العموم مثل القضاء والإمارة ».
وجاء في «حاشية الصاوي على الشرح الصغير» (2/ 273) من كتب المالكية «(والإمامة) العظمى أي: الخلافة من عالم عدل فطن ذي همة قرشي فرض كفاية، ولا يعزل إن زال وصفه ما لم يعزل نفسه، بخلاف من ولي أمرا من الأمور وخان فيه فإنه يستحق العزل».
وجاء في «نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج » (7/ 409) من كتب الشافعية « (قوله: وبيان طرق الإمامة) أي وما يتبع ذلك مما لو ادعى دفع الزكاة إلى البغاة إلخ (قوله القائم بخلافة النبوة) يشعر التعبير بخلافة النبوة أنه إنما يقال للإمام خليفة رسول الله أو نبيه، وهو موافق لما في الدميري عن أبي بكر من قوله قد قيل لأبي بكر يا خليفة الله فقال لست بخليفة الله بل خليفة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وجوز ذلك بعضهم لقوله تعالى {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} [الأنعام: 165] اهـ ».
وجاء في «شرح منتهى الإرادات » (3/ 387) « (ويثبت) نصب إمام (بإجماع) أهل الحل والعقد على اختيار صالح لها مع إجابته كخلافة الصديق فيلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته » .
(5) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» حديث (3455)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء» حديث (1842).
(6) «شرح السنة» للبغوي (14/75).
(7) «الأحكام السلطانية» ص6.
(8) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «إذا بويع لخليفتين» حديث (1853) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(9) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء» حديث (1844)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(10) أخرجه الترمذي في كتاب «الأحكام» باب «ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح» حديث (1352) من حديث عمرو بن عوف بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْـمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا». وقال الترمذي: «حديث حسن صحيح»، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» حديث (1352).
(11) «الاعتصام» (2/126).
(12) «غياث الأمم» للجويني ص51.
(13) جاء في «حاشية ابن عابدين» (1/ 549): «وزاد كثير الاجتهاد في الأصول والفروع؛ وقيل لا يشترط ولا الشجاعة لندرة اجتماع هذه الأمور في واحد ويمكن تفويض مقتضيات الشجاعة والحكم إلى غيره أو بالاستفتاء للعلماء».
(14) «الملل والنحل» (1/160).
(15) «غياث الأمم» ص68.
(16) «تحفة المحتاج» (9/74-76).
(17) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» (1/74).
(18) جاء في «حاشية ابن عابدين» (1/ 548) من كتب الحنفية: «وقوله قرشيا لقوله – صلى الله عليه وسلم – «الأئمة من قريش» وقد سلمت الأنصار الخلافة لقريش بهذا الحديث، وبه يبطل قول الضرارية إن الإمامة تصلح في غير قريش والكعبية إن القرشي أولى بها اهـ».
وجاء في «التاج والإكليل لمختصر خليل» (8/ 67) من كتب المالكية: « (وزيد للإمام الأعظم قرشي».
وجاء في «أسنى المطالب في شرح روض الطالب » (4/ 108) من كتب الشافعية: «(ويشترط كونه حال العقد) لها (أو العهد) بها (أهلا للقضاء) فيشترط كونه مسلما مكلفا عدلا حرا ذكرا مجتهدا ذا كفاية سميعا بصيرا ناطقا لنقص غيره (شجاعا) ليغزو بنفسه ويدير الجيوش ويقوى على فتح البلاد (قرشيا)».
وجاء في « مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى» (6/ 264) من كتب الحنابلة: «(وإنما ينصب قرشي) لحديث: «الأئمة من قريش» وحديث: «قدموا قريشا ولا تقدموها» وقول المهاجرين للأنصار: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش».
(19) «غياث الأمم» ص229.
(20) «غياث الأمم» ص225.
(21) «مقدمة ابن خلدون» ص196.
(23) انظر: «شرح منتهى الإرادات» (3/387-388)، و«كشاف القناع» (6/158-159).
(24) جاء في « فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب» من كتب الشافعية (2/ 187): «شرط الإمام كونه أهلا للقضاء قرشيا شجاعا وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء ووجوه الناس المتيسر اجتماعهم بصفة الشهود وباستخلاف الإمام كجعله الأمر شورى بين جمع وباستيلاء متغلب ولو غير أهل».
(25) «روضة الطالبين» (10/46).
(26) انظر: «تفسير القرطبي» (1/269).
(27) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/ 34).
(28) لم أقف عليه في كتب المتون، وقد ذكره ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (28/297).
(29) «غياث الإمم» ص80.
(30)«غياث الإمم» ص88-89.
(31) «مجموع الفتاوى» (34/176).
(32) «السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار» (4/512).
(33) «الدرر السنية في الأجوبة النجدية» (7/239).
(34) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة» حديث (1848).
(35) «سبل السلام» (3/258).
(36) «فضائح الباطنية» ص191.
(37) «البداية والنهاية» (7/146).
(38) أخرجه البخاري في كتاب «الشروط» باب «الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط» حديث (2734) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما.