حول العلاقة بين الإفتاء والسياسة

سؤال بمناسبة الحراك السياسي على المشهد المصري وتوظيف الدين والفتوى في هذا الحراك.
هل يجوز استخدام السلطات الدينية والأدبية للمُفتي في توجيه قرار سياسي أو الانتصار لفريق من الفرقاء أو حزب من الأحزاب أو برنامج من البرامج السياسية؟ وهل يُعَد هذا مدخلًا لدولة ثيوقراطية؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد تمهَّد أن الإفتاء بيان للحكم الشرعي، وأن المفتين مُوقِّعون عن الله تعالى، والأمناء على حراسة آخرة عباده، وأن تنصيبهم للإفتاء فرض على الكفاية، واستفتاءهم فيما يجد من النوازل متعين على من نزلت به هذه النازلة.
والإفتاء كغيره من أعمال المكلفين لابد له من الإخلاص والصواب، فهما الجناحان اللذان تطير بهما الأعمال إلى الله عز وجل؛ ولهذا كان أول ما يناط بالمفتي ويلزمه التحلي به من آداب- كما أشارت إلى ذلك الوثيقة الصادرة عن مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا في هذا الشأن- ما يلي:
• تجريد القصد لله تعالى، ودوام الضراعة إليه، وصدق التوكل عليه، فـ«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(1). ومن لم تكن له نيّةٌ لم يكن عليه نُورٌ، ولا على فتواه نور.
• التثبُّت في الفُتيا، فلا يفتي إلى بعد إيقان وإتقان؛ فإن أَجْرأ الناس عَلَى الْفُتْيَا أقلهم علمًا، وأجرأهم على الفتيا أَجْرَأُهمْ عَلَى النَّارِ(2).
• صيانة الفتوى من التأثر بالأهواء الحزبية أو التنظيمية، والحذر من الاستدراج لأهواء العوام، كالحذر من الاستدراج لأهواء السلاطين.
• صيانة الفتوى أن تكون أداة للصيال على الآخرين، أو أن تصبحَ وقودًا للفتنة في خصومة قائم.
• تجنب العجلة في إصدار الفتاوى في الخصومات القائمة قبل الإحاطة بملابساتها، والاستماع الدقيق إلى مختلف أطرافها؛ فإن الإفتاءَ قد يقترب من القضاء في بعض المواقع من حيث إلزامه وفصله في الخصومات.
• الحرص على التَّشاور مع إخوانه من أهل الفتوى، وإحالة الفتاوى التي تحتاج إلى نظر جماعي إلى لجان الفتوى أو المجامع الفقهية؛ فإن نظرَ الجماعة أولى بالصواب من نظر الفرد، وقد وفرت وسائل التقنية المعاصرة كثيرًا من الإمكانات في هذا المجال.
• قول الحق ولو كان مُرًّا، ومن لم يقو على قول الحق فلا أقل من أن يصمت. فلا ينطق بباطل.
أما السياسة فهي القيام على الشئون العامة من قِبَل الولاة بما يصلح أحوال الرعية، وما يقتضيه ذلك من وضع تنظيمات أو تراتيب إدارية ترمي إلى تحقيق المصالح العامة، فهي إجراءات وأعمال وتصرفات يُراد بها استصلاح أحوال البلاد والعباد، وقد جاءت السُّنة بالإشارة إلى ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ … »(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تسوسهم الأنبياء»؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعلُ الأمراء والولاة بالرعية.
وقد أوجز أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي تعريف السياسة الشرعية فأجاد، وذلك في قوله رحمه الله: «السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعدَ عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي»(4). وقد قيده بقوله: «ما لم يخالف ما نطق به الوحي».
وهذا يحتاج بطبيعة الحال إلى معرفة تامَّة بما يتطلبه القيام على الشأن العام من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يُحقق المراد المطلوب.
ولا شكَّ أن بعض هذه التدابير يدخل في دائرة الحل والحرمة، وجلها من جنس الشئون الدنيوية التي تركتها الشريعةُ عفوًا، وأحالت فيها إلى الخبرة البشرية والمصالح البشرية، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ الله عَافِيَتَه. وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا»(5).
فليس كل مسائل السياسة مما يقع في دائرة العفو التي تناط بأهل الخبرة وحدهم، وليست جميعًا من مسائل الفرائض والحدود الشرعية التي تستوجب نظر المفتي وأهل العلم بالشريعة، بل تشتمل على كلا الأمرين، وبناء على ذلك:
• فإن ما كان في دائرة الأحكام الشرعية فمردُّه إلى أهل الفتوى، ومنه ما يكون مردُّه إلى أهل الفتوى وأهل الخبرة معًا، كبعض النوازل الطبيَّة أو المصرفية ونحوه؛ فإن الفتوى معرفة الواجب في الواقع، فهي تعتمد على المعرفة بالشرع والدراية بالواقع.
قال ابن القيم رحمه الله: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن، والأمارات، والعلامات؛ حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر»(6).
• وما كان من الشئون الدنيوية البحتة فمردُّه إلى الخبراء، وحديث المفتي فيه كحديث غيره من الناس، بل إن كانت المسألة من المسائل التي تقتضي خبرة خاصَّة لا تتوافر لدى المفتي فليس له أن يتكلم فيما لا يحسن؛ فإن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب! ومن تطبب ولم يعلم منه الطب فهو ضامن.
وبهذا التفصيل السابق تتبين العلاقة بين الإفتاء والسياسة، فالذي يناط بالمفتي هو حراسة الدين والفضيلة، والزود عنهما في مواجهة كل ما يمثل انتهاكًا لهما، أما مفردات الشئون الدنيوية، وكل ما يدخل في دائرة العفو التشريعي- وكثير من قضايا المشهد السياسي من هذا القيبل- فإنه يصون منصبَ الإفتاء عن إقحامه في هذا المعترك، أو الدخول به في هذه التجاذبات، بل يبقى على تناصح مع الجميع، وعلى مسافة متقاربة من الجميع، وعلى رغبة صادقة في الخير والهداية للجميع.
فالدولة الإسلامية إذن ليست دولة ثيوقراطية يدعي القائمون فيها على المؤسسات الدينية أنهم مفوضون عن الله، وأنهم وكلاؤه على الناس، وأن جميع قراراتهم هي حكم الله، فيجب الإذعان لها والرضا بها دون مراجعة أو اعتراض كما يتوهم ذلك كثير من الناس.
فالثيوقراطية تقوم على ركنين أساسين:
• التفويض الإلهي للسلطة السياسية، فالحاكم نائب عن الله، وليس نائبًا عن الأمة، وهو مفوض من قبل الله للحكم بين العباد.
• استئثار هذا الحاكم بالحق في التحليل والتحريم والتشريع الديني نيابة عن الله، فكل ما يصدر عنه فهو دين واجب الاتباع، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
وقد عرفت أوربا هذا اللون من الحكم في عصورها الوسطي بناء على الكلمة المأثورة لديهم والتي ينسبونها إلى السيد المسيح عليه السلام: «ما تحلونه في الأرض يكون محلولًا في السماء، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء».
ولهذا كان يملك الأحبار والرهبان حق النسخ والتحليل والتحريم من دون الله، وقد شنع القرآن عليهم في ذلك في قوله تعالى:{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
وبينت السنة أن هذه الربوبية كانت في التحليل والتحريم؛ حيث كان الأحبار والرهبان يُحلون لهم ما حرَّم الله فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحلَّ الله فيُحرمونه، وهذه كانت عبادتهم إياهم.
والسؤال الآن هل عرف الفكرُ الإسلامي أو الدولة الإسلامية هذا النوعَ من الحكم عبر التاريخ؟
إن البديهية الأولى في الإسلام أن التشريع المطلق حقٌّ خالص لله جل وعلا، وأن ادعاء التحليل والتحريم من دون الله منازعةٌ لله في أخصِّ خصائص الربوبية، وأن الطاعة المطلقة في ذلك عبادةٌ لغير الله، وأنه لا يحلُّ لأحد أن يقول: هذا حكم الله أو هذا حلال وهذا حرام. إلا حيث يكونُ النصُّ القاطع المحكم، وأن مبلغ القول في مسائل الاجتهاد أن يقول الفقيه المجتهد: هذا مبلَغُنا من العلم، وهو صواب يحتمل الخطأ، وليس له أن يُلزِم به، ولا أن ينكر على مخالِفِه.
فمن أين تأتي شُبهة الثيوقراطية في ظلِّ هذه المبادئ الصارمة، والفصل التام بين حق الله في التشريع وحق الأمة في التنفيذ؟!
لقد نعى القرآن الكريم على بني إسرائيل أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله بما أعطوهم من حق التحليل والتحريم من دون الله؟ فسوَّى بين التسليم للأحبار والرهبان بالحق في التحليل والتحريم وبين القول بألوهية المسيح، وجمع بينهما في نسق واحد، فقال: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
وفي الحديث الذي أخرجه مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَـهُمْ عَلَى حُكْمِ الله فَلاَ تُنْزِلْـهُمْ عَلَى حُكْمِ الله وَلَكِنْ أَنْزِلْـهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ الله فِيهِمْ أَمْ لاَ»(7). ففرق بين حكم الله وبين حكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمي حكم المجتهدين حكم الله.
وكان كبار الأئمة ينهون تلاميذهم ومن جاء بعدهم عن تقليدهم حتى يحتاطوا لدينهم ويستوثقوا لأنفسهم ويأخذوا من حيث أخذوا، فكيف يزعم اليوم أحدٌ أن تطبيق الشريعة يقود إلى الثيوقراطية، ويمهد السبيل لكهنوت الدولة الدينية.
ورحم الله الشيخين: محمد عبده ومحمد رشيد رضا؛ فقد سطرا في جوابهما عن هذه الشبهة كلمات مضيئة.
يقول الشيخ محمد عبده: «ليس في الإسلام ما يُسمى عند القوم السلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوكراتيك) فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حقُّ الطاعة لا بالبيعة وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى حق الإيمان»(8).
بل يذكر الشيخ محمد رشيد رضا في كتاب «الخلافة»: «أن من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، فليس لأحد بعد الله ورسوله سلطان على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه… ثم يقول: الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقِّه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة. نعم شرط فيه أن يكون مجتهدًا، أي أن يكون من العلم باللغة العربية، وما معها مما تقدم ذكره حيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاجُ إليه من الأحكام؛ حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معًا.
وهو على هذا لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بميزة، ولا يرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصَفاء العقل، وكثرة الإصابة في الحكم، ثم هو مطاعٌ ما دام على المحجَّة، ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف على النَّهج أقاموه عليه، وإذا اعوجَّ قوموه بالنصيحة والإعذار إليه، «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(9)، فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيرَه ما لم يكن في استبداله مفسدةٌ تفوق المصلحة فيه، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، هو حاكم مدني من جميع الوجوه»(10).
نسأل الله أن يرزقنا حسن الفهم عنه، وحسن البلاغ لرسالاته. والله تعالى أعلى وأعلم.

__________________________

(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «بدء الوحي» باب «بدء الوحي» حديث (1) ، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية» حديث (1907) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2) فقد أخرج الدارمي في «المقدمة» باب «الفتيا وما فيه من الشدة» حديث (157) مرسلًا عن عبيد الله بن أبي جعفر رحمه الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».

(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «ما ذكر عن بني إسرائيل» حديث (3455) ، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء» حديث (1842) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4) انظر: «إعلام الموقعين» (4/283-288).

(5) أخرجه الحاكم في «مستدركه» (2/406) حديث (3419) ، وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».

(6) «إعلام الموقعين» (1/69-70).

(7) أخرجه مسلم في كتاب «الجهاد والسير» باب «تأمير الإمام الأمراء على البعوث» حديث (1731).

(8) «الإسلام والنصرانية» ص71.

(9) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب «أخبار الآحاد» باب «ما جاء في إجازة خبر الواحد» حديث (7257) ، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب طاعة الأمراء في غير معصية» حديث (1840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ: «لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ الله إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْـمَعْرُوفِ».

(10) «الخلافة» للشيخ رشيد رضا. ص140

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend