حول الدعوة إلى تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية

الحديث عن تحكيم الشريعة والدولة الإسلامية باتَ حديثًا غائمًا وفضفاضًا، بل بات ظنينًا ومريبًا ومتهمًا، في ظل اختطاف هذا المفهوم من قبل كيانات ضالَّة أحرقت الأرض وسممت الآبار، وشوهت هذا الأمل الندي، فهل من إضاءة حول هذا المفهوم تُعيد به شيئًا من الرجاء إلى هذه النفوس التي أوشكت أن يستبدَّ بها اليأس! وأن يقتلها القنوطُ، وأن تمزقها الحيرة؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الحديث عن تحكيم الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية وعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة حديثٌ تتبناه حركاتُ البعث الإسلامي، منذ سقوط الخلافة وتطبيق القوانين الوضعية في بلاد المسلمين، وما فتئت تُبدئ فيه وتعيد في ليلها ونهارها، وغدوها ورواحها، ولكن الدراسات الأكاديمية والمهنية الجادة التي تمهد لذلك، وتعبد له الطريق لم تأخذ حظَّها من الاهتمام والرعاية كما حظيت بذلك الدراسات الدعوية البحتة.
جميل أن تدعو إلى تحكيم الشريعة، وإقامة الدولة الإسلامية، ولكن كيف السبيل إلى ذلك في ظلِّ واقع توطنت فيه القوانين الوضعية ما يزيد على مائة عام، ونشأت في ظلها أجيال مبتورة الصلة بأبسط حقائق الشرع وبدهياته في باب الحكم والسياسة، وتوطنت فيه ثقافةُ العلمانية، واصطبغت بصبغتها مؤسسات الدولة في شتى المجالات، التعليمية والإعلامية والثقافية والتشريعية والقضائية والدستورية، وأصبح مجرد الحديث عن التغيير واستعادة الهوية عند كثير من الناس وفي كثير من المواقع ضربًا من الخيال، أو ضغثًا من الأحلام، أو شكلًا من أشكال العنف والإرهاب.
لقد ارتبط الحديث عن ذلك التغيير بمفهوم التطرُّف والغلو والشطط، والهروب من الزمان والمكان، وصاحب ذلك تجهيل بأبسط حقائق الإسلام في باب الدولة ونظام الحكم، واختزال التديُّن في إقامة بعض الشعائر التعبدية، ثم جرى مؤخرًا اختطاف هذا المفهوم الجليل من قبل تجمعات بدعية ضالة ادعت الخلافة، وأوسعت هذا المفهوم الجميل تشويهًا وتدميرًا وتنكيسًا، وخيم ليل كئيب من الجهالة والتزييف والتحريف.
إن البداية دائمًا هي العلم، واستفاضة البلاغ، وتصحيح المفاهيم، وإقامة الحجَّة في روية، وفي حلم وأناة، وهما الخصلتان اللتان يحبهما الله ورسوله.
غاية الدولة في الإسلام وأعظم مقصودها حراسةُ الدين وسياسة الدنيا به، وهذا هو الذي اتفقت عليه كلمةُ جميع من تكلم في هذا الباب من أئمة المسلمين، إنها راية جامعة تضمُّ أهل القبلة ومن دخل في عهدهم من غيرهم، وتسعى إلى حراسة الدين، وسياسة الدنيا به، ولا مشاحة في التسميات فلتكن: مملكة، إمارة، سلطنة، دولة، قُطرًا، إمامة، خلافة، فلتكن التسميات ما تكن، ولكن الجوهر الذي لا ينبغي أن يختلف فيه ولا أن يختلف عليه هو (حراسة الدين وسياسة الدنيا به).
ومقصودها في باب السُّلطة قيامُ الناس بالقسط، وتمكين الأمة من الهيمنة على الولاة والأئمة توليةً ورقابةً وعزلًا، وأن تكون الأمة معيارًا عليهم إن زاغوا أو قسطوا، فإما أن تعدل بهم من الجَوْر إلى العدل، أو أن تعدل عنهم إلى غيرهم، وسبيلها معهم كسبيلهم مع وُلاتهم وعمالهم وقضاتهم، فإما أن يستقيموا، وإما أن يستقيلوا.
والحكومة في هذه الدولة ليست حكومةً دينية على النسق الغربي الكنسي للحكومات الدينية، التي يستقل فيها الحاكم بالحق في التشريع المطلق، والذي يقع اختيارُه من قبل الله، فهو ممثل له على الأرض، فلا سلطان لأحدٍ عليه، فالتشريعُ المطلق حقٌّ لله جل جلاله، ومن نازعه فيه كان طاغوتًا من الطواغيت، ويصبحُ الكفر به قسيم الإيمان بالله عز وجل، واختيار الحاكم بواسطة أهل الحل والعقد في جماعة المسلمين، إن أحسن أعانوه، وإن أساء قوَّموه، وذلك في ضوء مواصفات وشروط فصَّل القول فيها أهلُ العلم وحملة الشريعة.
والأمر بعد ذلك في باب الآليات والوسائل واسع، فكل آلية تحقق هذا المقصود يمكن النظر فيها، واعتبار ما تحمله من الخير، وتهذيب ما قد يشوبها من القصور والنقائص، والحكمة ضالة المؤمن، وقد جاءت الشريعة بمنهج قويم في باب التشريع، فأجملت فيما يتغير، وفصلت فيما لا يتغير، وجُلُّ مسائل السياسة الشرعية مما يتغيَّر، ومن ثمَّ تركت الشريعة فيه مجالًا رحبًا للاجتهاد، تركض فيه خيول المجتهدين يمنة ويسرة في ضوء مقاصد الشرع وقواعده الكلية.
لم تغفل الشريعة قاعدةَ الممكن والمتاح، بل اعتبرت ذلك وجعلته من قواعدها الكلية، فالتكليف مناطُه القدرة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وإذا ضاق الأمر اتسع، وشمولية الاعتقاد لا تعني بالضرورة شموليةَ العمل، وشموليةُ الدعوة لا تعني بالضرورة شموليةَ الحركة، ولم تغفل كذلك قاعدةَ التدرُّج، فأقرت بالتدرج المرحلي المنضبط في تطبيق الأحكام الشرعية عند الاقتضاء بسبب استفحال الفساد وتشعب مجالاته، فإن الضعفَ عن تطبيق بعض الأحكام كما يُتصور على مستوى الأفراد، قد يتصور على مستوى الدول، ويرجع في جدولة ذلك إلى الثقات من الفقهاء والخبراء.
ولم تغفل كذلك دور المعارضة في حراسة الحريات، وتفجير الطاقات والإبداعات، فأقرت بها ونظمتها، وسعت إلى تجريدها من الأهواء السياسية قدر الطاقة، فأكدت على أن المعارضة السياسية ليست احترافًا في المنهج الإسلامي، فليس للمشتغلين بالشأن العام من أهل الدين معارضة كل ما يأتي من قبل مخالفيهم صوابًا كان أو خطأً، على النحو الذي يجري عليه الحال في المعارضات العلمانية. بل يتعين عليهم أن يقولوا للمصيب أصبتَ، كما يقول للمخطئ أخطأت؛ لأنهم لا يعارضون لمجرد المعارضة، بل ينطلقون في معارضاتهم من قاعدة الحسبة: أمرًا بالمعروف متى ظهر تركه، ونهيًا عن المنكر متى ظهر فعله، مع تحري الحكمة في تخير الأسلوب المناسب، وتحين الوقت الملائم في ذلك كله.
أرجو أن تكون هذه إضاءة سريعة، تعقبها دراسات موسَّعة حول هذا الموضوع، وقد أفردت الجامعة الإسلامية بأمريكا الشمالية (مشكاة) هذا الموضوع ببرنامج أكاديمي مستقل تحت عنوان: السياسة الشرعية. فتابعه بارك الله فيك.
وهذه دعوة لكل من أراد أن يتخصص في هذا الموضوع، أو أن يوسعه بحثًا وتأملًا وتعميقًا أن يلتحق بهذا البرنامج فسيجد فيه ضالته بإذن الله. والله تعالى أعلى وأعلم.

تاريخ النشر : 23 يونيو, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend