ما حدود طاعة ولي الأمر؟ وما المراجع التي تفيدني في هذا الموضوع؟ وجزاك الله خيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد: فإن الله تعبَّد المسلمين بطاعةِ وُلاتِهم في كل ما كان لله طاعةً وللمسلمين مصلحةً، ما أقاموا فيهم كتابَ الله، ففي الحديث المتفَق عليه: «عَلَى الْـمَرْءِ الْـمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»(1). وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(2).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَتَكُونُ أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا» قالوا: يا رسول الله، فما تأمرُنا؟ قال: «تُؤَدُّونَ الْـحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ»(3). فإن ظَهر منهم الكفرُ البواحُ، كما لو أعلنوا العلمانية وردوا مرجعيةَ الشريعة، وتحاكموا في الدماءِ والأموال والأعراض إلى غيرِ ما أنزل الله- فقدوا مشروعيتهم، وسقط التعبد بوجوبِ طاعتهم؛ فقد روى البخاري ومسلم عن جُنادةَ بن أبي أُميةَ قال: دخلنا على عُبادةَ بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدِّثنا- أصلحك الله- بحديثٍ ينفعُ اللهُ به سمعتَه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أَخَذَ علينا: أن بايَعْنَا على السمعِ والطاعة في منشطِنا ومكرَهِنا وعُسرِنا ويُسرِنا وأَثَرَةٍ علينا، وألا ننازعَ الأمرَ أهلَه، قال: إلا أن تَرَوْا كُفرًا بَوَاحًا عندكم مِن الله فيه برهان(4). وقد لخَّصَ الحافظُ ابنُ حجر الموقفَ الشرعيَّ في حالةِ الكفرِ البواح، فقال: «وملخَّصُه: أنه ينعزل بالكفرِ إجماعًا؛ فيجب على كل مسلمٍ القيامُ في ذلك، فمَن قَوِيَ على ذلك فَلَه الأجر، ومَن داهن فعليه الإثم، ومَن عجز وجبت عليه الهجرةُ مِن تلك الأرض»(5). ولكن سقوطَ الشرعية لا يَعني إطلاقَ القولِ بمشروعيةِ منابذتهم في جميعِ الأحوال؛ فإن ذلك مرهونٌ بالقدرةِ وغلبةِ المصلحة، فإذا لم يتيسَّر ذلك فإنهم يُطاعون في الطاعةِ إلى أن يَستريح بَرٌّ أو يُستراح مِن فَاجِرٍ، وينتقل الواجبُ إلى الاشتغال بالدعوة وإعدادِ العدة. كما يلاحظ أن أمر تكفير الـمُعيَّن لابد فيه من تحقيقِ الشروط وانتفاء الموانع، ومردُّه إلى القضاء أو العلماء المجتهدين، وهو ليس بلازم في مسألتنا تلك، لأن الحديث قد ربط سقوطَ واجب الطاعة وانحلال عقد الإمامة بظهور الكُفر البواح وليس بالحكم بالردة على آحاد المتلبسين به، وهذا كذلك ينبغي أن يرجع فيه إلى أهل الحل والعقد في جماعة المسلمين كما سبق أن بينا في فتوى سابقة. أما المراجع التي يمكن ان تفيدك في هذا الأمر فهي كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، وكتب الحديث في أبواب الإمارة ونحوها، وكتب السياسة الشرعية التي تتحدث عن الأحكام السلطانية. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الأحكام» باب «السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية» حديث (7144)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية» حديث (1839)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه .
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849).
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري (3603)، ومسلم (1843).
(4) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الفتن» باب «قول النبي صلى الله عليه وسلم : سترون بعدي أمورًا تنكرونها» حديث (7056)، ومسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية» حديث (1709).
(5) «فتح الباري» (13/123).