تولِّي غير المسلم رئاسة الدولة الإسلامية

حول مشروعية تولِّي أحدٍ من غير المسلمين رئاسة الدولة الإسلامية، فقد نُشر في مواقع شتى على الإنترنت مشروعية ذلك منسوبًا إلى بعض طلبة العلم، وقد شدد النكير على من خالفه.

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد: فقد أجمعت الأمةُ سلفًا وخلفًا على اشتراط الإسلام فيمن يتولَّى الإمامة العظمى، كما اتفقت على انتقاض بيعته وانحلال عقدة إمامته ومشروعية الخروج عليه بالكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وقد حكى الإجماع على ذلك غيرُ واحد من أهل العلم. فقال القاضي عياض: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل»(1).

وقال ابن حجر: «ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كلِّ مسلمٍ القيامُ في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض»(2).

وتأمل قول ابن حجر: «ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك». والأصل في ذلك كما هو مقرر بالبداهة أن الإمامة نيابةٌ عن النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وأن على رأس المهمات المنوطة به حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمعت عليه سلف هذه الأمة، ولا يُتصور أن يُناط مثل ذلك بمن لا يدين ابتداءً بهذا الدين، وما دار بخلد أحدٍ أن يتمارى في ذلك رجلان أو أن ينتطح فيه عنزان، فإذا انفرط عِقد الإمامة العظمى وتفرَّقت الأمة إلى دويلات فإن هذا لا يُسقط عن قيادتها واجبَ حراسة الدين وسياسة الدنيا به، بل يزال حُكَّام المسلمين ملوكًا كانوا أو أمراء أو رؤساء مطالبين بإقامة الدين ومطالبين بإقامة الحدود، وبالحكم بين الناس بما أنزل الله.

إن انهيار الخلافة لا يعني انهيار الواجبات الدينية وسقوطها عن كاهل الأمة والأئمة، بل لا يزالون مطالبين بذلك، فما يُطالب به الخلفاء من الواجبات الدينية يطالب به ملوك المسلمين وأمراؤهم ورؤساء جمهورياتهم في زمن انفراط عِقد الإمامة، ثم هم فوق ذلك مطالبون بأن يتداعوا فيما بينهم لإقامة الخلافة الراشدة، أو على الأقل تهيئة الأجواء لإقامتها وإزالة العوائق من طريقها. وقياس مشروعية تنصيب أحد من غير المسلمين في دولة إسلامية على ما كان من يوسف عليه السلام  غلط بيِّن؛ لأن يوسف عليه السلام  كان يعيش بين أَظهُر قومٍ من غير المسلمين، فكان سعيه لتقليل المفاسد ما استطاع وتوسيع رقعة الخير ما استطاع، وكان هذا هو الممكن والمتاح. ومن المعلوم أن الميسور لا يسقط بالمعسور، فهو يصلح دليلًا لمن يُقيمون خارج ديار الإسلام ويتبوءون من الولايات ما يُمكِّنهم من توسيع رقعة الخير واستكمال تحصيل المصالح ورفع الظلم أو تخفيفه عن المجتمع عامة وعن المسلمين خاصة، أما نقل هذا إلى بلد يدين سواده الأعظم بالإسلام ويتحرقون شوقًا إلى تحكيم الشريعة فهو من المفارقات الغريبة الشاذة! وأفحش من ذلك قياس رئاسة دولة إسلامية على رئاسة اتحاد ملاك في عمارة من العمارات السكنية! وإنه وايم الله لَأَمْرٌ لا يكاد ينقضي منه العجب! فأين هذا من ذاك؟! هل اتحاد الملاك مطالب بإقامة الحدود، ورفع عمل الجهاد، والحكم بين عموم الناس بما أنزل الله؟! إن هذه ولاية خاصة في شأن خاص، وأمر الدولة ولاية عامة في شأن عام، فهي تُنشئ عموم النظر على عموم الناس في هذا القطر، فقياس هذا على ذاك قياس باطل، ونسأل الله لأصحابه الهدى والتقى.

أما شركاء الوطن من غير المسلمين فلهم كل الصيانة والرعاية برًّا وقسطًا، ولحقوقهم المشروعة كل الوفاء معنًى ومبنًى، كما أنهم بدورهم مُطالَبون بالوفاء بعقودهم وعهودهم مع جماعة المسلمين، ولهم على ذلك ذمة الله ورسوله والمؤمنين، وصلوات الله على صاحب الشفاعة العظمى إذ يقول: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة»(3). والله تعالى أعلى وأعلم.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/229).

(2) «فتح الباري» (13/123).

(3) أخرج أبو داود في كتاب «الخراج والإمارة والفيء» باب «في تعشير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارات» حديث (3052) عن عدة من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  عن آبائهم، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (445).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend