توعية الناس بخطورة تنظيم (داعش)

شيخنا الحبيب الدكتور صلاح الصاوي، حفظه الله ورعاه، أسأل الله عز وجل أن يُبارك في أوقاتكم، وأن يفتح لكم أبواب رحمته.
شيخنا الفاضل، نحن نمرُّ بفترة حرجة في بلاد كندا في هذه الأيام؛ بسبب ما حصل بالأمس في مقرِّ الحكومة الكندية في أوتاوا، والمؤسف والمزعج والمؤلم أن هذا الجنون يتمُّ باسم الإسلام من أناس لا يعرفون أبسطَ قواعد الدين، يدفعهم الحماس لنصرة داعش وغيرها.
سوف أُلقي خطبةً غدًا إن شاء الله لنُطمئن الناسَ ونوجه رسالةً إلى الشباب المغرَّر بهم، وأنوي الكلام عن الراية العمِيَّة والقِتلة الجاهلية، وحسب ما وصلنا من فتاوى العلماء الأفاضل في منطقة الشرق الأوسط أن داعش قد رفعوا راية الخوارج، مع تفاصيل لا يفي المقامُ بذكرها، ولكن مهما يكن أمرُ هذه الجماعة فهي بالنسبة لشبابنا في بلاد الغرب أمرٌ مجهول يصعب التفريق فيه بين الحق والباطل.
فهل يشرع لنا معاشر الخطباء والمفتين أن نُصفنها بأنها رايةٌ عميَّة حتى نُحذر الشبابَ من هذه الفتنة التي قد تأكل الأخضر واليابس؟
بإذن الله سوف أعبر عن رأيي ولا أنسب القولَ إلى أحد بعينه إلا من كتب ونشر رأيَه على الإنترنت، واستفاض بين الناس، ونحن بحاجة إلى آرائكم حتى لا نخرج عن الجادة، ولا نتحمل تبعات القول على الله بغير علمٍ.
جزاكم الله خيرًا وبارك في جهودكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فقد أخرج مسلم، عن غيلان بن جرير، عن زياد بن رياح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ- مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لَا يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي بِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي»(1).
وفي لفظ: «وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي»(2).
فالراية العميَّة كلُّ راية لم يَستَبِن فيها طريقُ الهداية، مأخوذةٌ من العَمَى، ضدُّ الإبصار، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا للراية العميَّة بالقتال تحت العصبية، وذلك في الحديث نفسه، والعصبية مشتقة من العَصَبَة، وهم أقارب الرجل من جهةِ أبيه، وهم الذين يغضب لغضبهم، ويرضى لرضاهم؛ لأنهم قبيلته وعمومته.
وقد سئل الإمامُ أحمد بن حنبل عمَّن قُتل في عميَّة، قال: «الأمرُ الأعمى العصبية لا يستبين ما وجهه»(3).
وقال النووي: «قالوا هي الأمرُ الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق بن راهويه: هذا كتقاتل القوم للعصبية»(4). اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «هو الذي يقاتل لأجل العصبية والرياسة لا في سبيل الله كأهل الأهواء مثل قيسٍ ويمنٍ»(5). اهـ.
وقد ذكر رحمه الله من بين تطبيقات القتال تحت راية عميَّة الخوارجَ على الأمة، إمَّا مِن العداة الذين غرضهم الأموال كقُطاع الطريق ونحوهم، أو غرضهم الرياسة كمن يقتُل أهلَ مِصْرٍ الذين هم تحت حكم غيرِه مطلقًا وإن لم يكونوا مقاتلةً، أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماءَ أهل القبلة مطلقًا كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه(6).
وما نقل عن القوم المسئول عنهم يُلحِق رايتهم بالراية العميَّة، فإن الخلافة المزعومة التي يدعون إليها لا تُمثل جماعةَ المسلمين، وأول ما يرد على ذلك هو الاستبدادُ بهذا الأمر الجلل دون بقية المسلمين، فمن ذا الذي خولهم الافتيات على الأمة وفوضهم بذلك؟!
وقد قال عمر رضي الله عنه: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا(7).
والمعنى كما قال ابن حجر رحمه الله في «الفتح»: «أنَّ من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل»(8).
وأيَّ شوكةٍ يعوِّلون عليها في إعلان الحرب على الدنيا بأسرِها، وهم ينزعون الشرعيةَ عما سواهم؟! ويدعُون جميعَ الكيانات السياسية في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها إلى مبايعتهم، وما يعنيه ذلك من نزع شرعيتها جميعًا، وإعلان الحرب عليها جميعًا، ومن ورائها بقية دول العالم بمعسكريه: الشيوعي والرأسمالي؟!
فإذا أضيف إلى ذلك روحُ التكفير واستحلالُ المخالفين الذي تنضح به تصريحاتُ رموزهم وكبرائِهم، والتلويحُ بفَلْقِ رءوس المنابذين لهم، بل وممارسة ذلك بالفعل- لَـهَالَنَا الأَمْرُ، وأدركنا ما يحمله من مخالفات شرعية، ومجازفات عمليَّة، تفتقد لأدنى درجات الوعي والحكمة والرشد والبصيرة، ويمثل لونًا من الانتحار الديني والسياسي بكل المقاييس البشرية!
ولهذا فلا نُجيز لشبابنا النَّفرُ إليهم والانحياز إلى فسطاطهم، وإنما الواجب هو المناصحة والاعتزال.
أما بالنسبة لهذا الشاب المغرر به فإن الذي نبدأ به في التعليق على موقفه هو الإنكار على هذا التصرف الطائش الذي استُدرِج إليه، إن صح ما نسب إليه، فما فعله على هذا النحو الذي وصفته وسائل الإعلام لا تُجيزه شريعةٌ ولا قانون، فليس له- وهو مرتبط مع قومه بميثاق المواطنة- أن يخفر ذِمَّتَهم، ولا أن ينقض عهدهم، فيروِّع أمنهم، ويزهق أنفسًا في عهدها، بلا إعذار ولا إنذار، ولا مفاصلة ولا منابذة على سواء.
والمواطنة رابطةٌ للتعايش المشتَرَك بين أبناء الوطن الواحد، مهما اختلفت مشاربُهم أو تباينت عقائدُهم، وهي تُنشئ لُـحمةً اجتماعيةً يترتب عليها واجبات وحقوق متبادلة، وتجعل أصلَ حرمة الدماء والأموال والأعراض والمرافق العامة مشتركًا بين الجميع، ولا مساسَ بشيء من ذلك إلا وَفق ما تُحدده القوانين والنظم السارية.
فالإطار الشرعي الذي يحكم العلاقة بين أبناء الوطن الواحد عند اختلاف الملل والنحل هو ميثاقُ الأمان، أو العقد الاجتماعي الذي تُنشئه رابطةُ المواطنة، وهو ميثاق على البرِّ والقسط والسلامة من الأذى.
فهب أنه قد غضب على قومه بحقٍّ أو بباطل، وخالفهم في المنهج والمعتقد، واعتقد ظُلمَهم واستطالتهم بغيرِ حقٍّ، فقد كان عليه أن ينبِذَ إليهم على سواء، أن يفارق أرضَ قومه، وأن يلحق بمن يريد أن يلحق بهم، في مشرق أو في مغرب، ثم يفعل بنفسه حاضرًا ومستقبلًا بعد ذلك ما يشاء، ويتحمل تبعات أقواله وأفعاله ومواقفه سياسةً وديانةً وقضاء. والله تعالى أعلى وأعلم.

_____________________
(1) أخرجه مسلم في كتاب «الإمارة» باب «وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة» حديث (1848).
(2) التخريج السابق.
(3) «تهذيب اللغة» (3/157).
(4) «شرح النووي على صحيح مسلم» (12/238).
(5) «مجموع الفتاوى» (35/17).
(6) أخرجه النسائي في «سننه الكبرى» (5/162) (8567).
(7) أخرجه البخاري في كتاب «الحدود» باب «رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت» حديث (6830).
(8) «فتح الباري» (12/150).

تاريخ النشر : 24 يناير, 2025
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend