تحديد فترة الرئاسة

ما حكم الشرع في تحديد فترة الرئاسة أو الخلافة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد: الأصل في عقد الإمامة الذي عرَّفه الفقهاء وتعاملت به الأمة على مدار القرون هو الدوام، وأن الإمام لا يُخرَج عن الإمامة إلا لسببٍ يقتضيه من نقصٍ في بدنه أو جَرْح في عدالته، على تفصيل طويل في ذلك أشرنا إلى بعضه في هذه الدراسة، ونُحيل القارئ فيما وراء ذلك إلى المراجع المتخصصة. ولكن السؤال الذي يَرِد في هذا المقام: ما مدى مشروعية توقيت عقد الإمامة من البداية بأن يبايع الإمام مدة معينة تنحلُّ بعدها عقدة إمامته، ويعود الأمر مرة أخرى إلى الأمة لتجدد اختياره أو لتعدل عنه إلى غيره.

إذا ترجح هذا الأسلوب وسيلة لكبح جماح السلطة، وتمكين الأمة من الهيمنة على حكامها تولية ورقابة وعزلًا، ووقايتها من حركات الخروج المسلح التي جرَّت عليها في تاريخها ما جرَّت من الفتن والمفاسد؟! لقد تمهد في كليات السياسة الشرعية أن الإمامة عقدٌ من العقود، تصحُّ بما تصحُّ به العقود، وتبطل بما تبطل به العقود، وأن طرفَا هذا العقد: الإمام والأمة. فعلى الإمام واجب حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وعلى الأمة واجب الطاعة والنصرة.

وإذا كان ذلك كذلك فما الذي يمنع إذا رقَّ الدين وصادر الأئمةُ حقَّ الأمة في الهيمنة والرقابة، وتحولت كراسي الحكم من تحتهم إلى مطايا للاستغلال والاستبداد- أن يشترطوا على الأئمة من البداية أن يكون اختيارهم مؤقتًا لمدة معينة، ثم يعود الأمر بعد ذلك إلى أهله- إلى جماعة المسلمين- لتستأنف اختيارهم وتُجدِّد ولايتهم، أو تعدل عنهم إلى غيرهم في ضوء ما تسفر عنه سيرتهم في الحكم خلال هذه المدة المؤقتة؟! إن مبدأ تقييد البيعة ليس بالغريب على قواعد السياسة الشرعية، لقد بايع الأنصارُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم داخل المدينة، فلما كانت غزوة بدر واقتضى الأمرُ القتالَ خارج المدينة استشارهم رسـول الله صلى الله عليه وسلم  في ذلك وهو المعصوم المطاع صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا أمر لم تعقد عليه البيعة من البداية(1).

يقول ابن القيم: «ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم  خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيًا فتكلموا أيضًا فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثًا ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، كأنك تُعرِّض بنا. وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشي أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم»(2). ولقد رُوي أن عبد الرحمن بن عوف عندما عوتب في تقديم عثمان على عليٍّ في البيعة، أجاب بأنه عرض الأمر على عليٍّ، واشترط عليه أن يلتزم باجتهاد الشيخين من قبله فقال: أجتهد رأيي ولا آلو. عرض ذلك على عثمان فقبل فعقد البيعة له. فكأنه أراد أن تكون سوابق الشيخين قيدًا جديدًا على سياسة الخليفة في الحكم، وهذا إن صح يفتح روزنة للتفكير فيما نحن بصدده.

وقد تمهَّد في قواعد السياسة الشرعية كذلك أن الأمة هي مستقر السلطة ومستودعها، فإذا كانت السيادة حقًّا خالصًا لله جل وعلا، فإن السلطة في إطار سيادة الشريعة حق خالص لجماعة المسلمين، فللأمة في هذا الإطار حق الهيمنة على حكامها تولية ورقابة وعزلًا، لا ينازعها في ذلك إلا ظلوم. وإذا كان الحقُّ في السلطة ابتداءً هو لجماعة المسلمين، وهي التي تُنيب الأئمة في ممارسة هذه السلطة تحقيقًا لمصالح المسلمين العامة، فإن لها بمقتضى القواعد العامة للشريعة أن تبذل هذه السلطة مطلقة أو مقيدة، حسب ما يترجح لديها من المصلحة في ذلك الحق، فلها أن تقيدها من حيث الموضوع؛ فلا تجعل للأئمة مثلًا الحق في الاستقلال بالقرارات المصيرية، التي تشكل مصائر الأمم ومستقبل الشعوب دون الرجوع إلى جماعة المسلمين ممثلة في أهل الشورى أو أهل الاختيار، ولاسيما قد تعقدت عملية صناعة القرار في واقعنا المعاصر، فلم تعد نبوغًا فرديًّا أو تفوقًا شخصيًّا، بل أصبحت عملية بالغة التعقيد والتشابك يجب أن تتوافر عليها مؤسسات على أرقى مستوى من الخبرة والتخصص. ولها أن تقيدها من حيث الزمان: فتعقد لهم البيعة إلى أمدٍ محدود وأجل معلوم، ليئول إليها الأمر بعد ذلك: فإما أن تجدد اختيارهم إن استقاموا لها، وإما أن تعدل عنهم إلى غيرهم. ولا يرد على ذلك القول بأن تقييد البيعة على هذا النحو أمر لا عهد للسلف الصالح به فيكون بدعة من البدع؛ لأن هذا أدخل في باب السياسة الشرعية، وهي كل فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يأتِ فيه دليل خاص ولا جرى عليه عملُ مَن سبق من أهل العلم، لكنه ملائم لجنس تصرفات الشارع ومندرج تحت مقاصد الشريعة العامة.

بل إذا تعين ذلك وسيلةً لتحقيق مصلحة راجحة أو دفع مفسدة راجحة تمهد القول بمشروعيته بل وبوجوبه، إلا أن تقدير المصالح والمفاسد من مسائل الاجتهاد التي يتفاوت في تقديرها أهل الفتوى. والله تعالى أعلى وأعلم.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: «السيرة النبوية» لابن هشام (3/167)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/35).

(2) «زاد المعاد» (3/173).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend