العمل السياسي أحد مناهج التغيير المطروحة على الساحة الإسلامية، فما المقصود بالعمل السياسي؟ وما الضوابط الحاكمة لهذا العمل، والتي تميزه عن الأعمال السياسية التي تشتغل بها الأحزاب العلمانية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
المقصود بالعمل السياسي في هذا المقام هو السعي إلى تكوين الأحزاب السياسية، أو المشاركة فيما هو قائم منها، أو الاشتراك في البرلمانات ومجالس الشورى وغيرها من المؤسسات السياسية والدستورية للدولة، مع ما يستتبعه ذلك من التحالفات المؤقتة مع بعض القوى السياسية الأخرى سعيًا إلى تحصيل بعض المصالح الشرعية للحركة الإسلامية، وتعطيل أو تقليل بعض المظالم الواقعة عليها.
وتتمثل أهداف هذا العمل فيما يلي:
– إقامة الحجة، واستفاضة البلاغ، ونقل قضية التوحيد وتحكيم الشريعة وإقامة الدين إلى هذه المواقع.
– إقامة ما يمكن إقامته من أحكام الشريعة، والحيلولة دون مزيد من الإضاعة والانتهاك لما بقي منها.
– القيام بواجب الحِسبة، وذلك بمحاربة الفساد، وكشف رموزه، وتعقبهم في مختلف المواقع في إطار من الأمن النسبي الذي تسبغه هذه المواقع على أصحابها.
– تحصيل بعض المصالح للعمل الإسلامي، ودفع أو تقليل بعض المظالم الواقعة عليه.
– المحافظة على حقوق الأقليات خارج ديار الإسلام، والدفاع عنها، والحيلولة دون انتهاكها.
والأدلة التي تمثل مدخلًا لتقرير هذا العمل ما يلي:
– السياسة الشرعية، وهي كل فعل يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يسنه الرسول ﷺ، ولا نزل به وحيٌ خاصٌّ، فإذا كانت الجاليات الإسلامية في الغرب تعيش بين أظهر الكافرين أو الأمة المسلمة في الشرق تعيش تحت قبضة العلمانيين، ولها معهم من العلاقات والمصالح المتشابكة ما تمس الحاجة معه إلى وجود من يتولى حراستها، ويدفع المظالم عنها من خلال وجوده في هذه المواقع، فقد تَمهَّد سبيل إلى القول بجواز ذلك، وعلى المسلم أن يتقي الله ما استطاع في تجنب ما قد يتعرض له من المفاسد، ما دامت على الجملة مفاسد مرجوحة.
– الأصل في المعاملات الإباحة حتى يأتي ما يدل على التحريم.
– قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». فإذا تعين سبيل لوجود المسلم في هذه المواقع لتحصيل بعض المصالح، أو دفع بعض المفاسد، ولم يكن من سبيل لتحقيق ذلك إلا من خلال هذا الوجود، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
– قاعدة الذرائع والنظر في المآلات، والذرائع ما يكون طريقًا لمحلَّل أو محرَّم، فيأخذ حكمه. وقد يكون الشيء مشروعًا ويُنهى عنه باعتبار مآله، وقد يكون ممنوعًا ويُتَرخَّص فيه باعتبار مآله، فإذا تعين سبيل الحضور الإسلامي في هذه المواقع لتحقيق بعض مصالحه الراجحة، أو دفع بعض المفاسد الظاهرة، وكان تحصيلُ أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما من القواعد الكلية في الشريعة، فقد امتهد سبيل للقول بمشروعية هذا العمل، إن لم نَقُلْ بوجوبه وجوبًا كفائيًّا على جماعة المسلمين.
وتتمثل أبرز ضوابط العمل في هذا المجال فيما يلي:
– دراسة الجدوى والتأكد من غلبة المصلحة.
– ألا يقتضي ذلك موالاة لغير المسلمين، أو مظاهرة لهم على المؤمنين.
– ألا ينعكس على الصف الإسلامي بالتمزُّق والفِتنة.
– تقدير عبودية الآخرين لله عز وجل ، وتجنب حصر العمل الإسلامي في هذا المسار.
– ألا يكون على حساب تراجع أو تهميش الأعمال الدعوية أو التربوية.
ومن محاذير هذا العمل ما يلي:
– شق الصف الإسلامي، وتفجير الفتن بين فصائله لتباين الاجتهادات حول هذه القضية ابتداء، أو لتباين الاجتهادات حول بعض تطبيقاتها وآلياتها من ناحية أخرى.
– التورُّط في إدانة الفصائل الأخرى العاملة للإسلام، ودمغها بالجمود أو الإرهاب عندما لا تتجاوب مع الطرح السياسي الذي تقدمه التجمعات التي تتحمس لهذا العمل.
– الاستدراج إلى تنازلات لا تُقابَل بمصالح راجحة، والتنازل إذا بدأ فليس له حد ينتهي إليه، والمعصوم مَن عصَمَه الله تعالى.
يدور الاشتغال بالعمل السياسي في فلك السياسة الشرعية، ويتقرر حكمه في ضوء الموازنة بين المصالح والمفاسد، فحيثما رجحت المصلحة، وخلا من المحاذير الشرعية، فلا بأس بالاشتغال به، بل قد يكون الاشتغال به واجبًا في بعض الأحيان، إذا تعين وسيلة لتحصيل بعض المصالح الراجحة أو تكميلها، وتعطيل بعض المفاسد أو تقليلها، وقد يكون حرامًا إذا عظمت مفسدته، بل ربما أدى إلى فساد في الاعتقاد، أو موالاة للكفر، أو عبادة للطاغوت.
ولهذا فإن مسائل هذا الباب مما تتغير الفتوى فيها بتغير الزمان والمكان والأحوال، وذلك تبعًا لتغير وجوه المصلحة.
الغالب في الاشتغال بالأعمال السياسية في هذه الأيام كونه وسيلة لتحقيق بعض المكاسب للحركة الإسلامية، ودفع بعض المفاسد عنها، ولا يُنتَظَر منه أن يكون وسيلة الحركة إلى الإصلاح العام والتغيير الشامل الذي تنشده وتسعى إليه، سواء في الشرق أم في الغرب.
أما ما ورد من الاعتراض على ذلك التكييف بأن مجرد الاشتراك في هذه الأعمال يتضمن في ذاته الاعتراف بهذه النظم الكافرة وإضفاء الشرعية عليها، فإنه موضع نظر، بل ربما كان إطلاقه على هذا النحو غلطا بيِّنًا.
ووجه ذلك أنه يجب التفريق في هذا المقام بين الاعتراف المرحلي بالأمر الواقع، لعدم القدرة على تغييره في الحال، والتعامل معه بما يدفع شره، أو يقلل مفسدته، وبين التزامه وإضفاء الشرعية عليه، فهذا الأخير فقط هو الذي يَرِد عليه ذلك الاعتراض.
فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة كأُمَّة باعتبارهم واقعًا قائمًا في المدينة، وأبرم معهم العهد على هذا الأساس، ولم يَعْنِ ذلك إقرارًا باليهودية، ولا إضفاء للشرعية على تجمعها وديانتها.
وقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع بطون العرب وقبائلهم، ومنهم من دخل في عهده بعد الحديبية، رغم أن هذه القبائل تجمُّعات جاهلية، ولم تكن قد دانت بالإسلام بعد، ولم يعن ذلك إقرارًا بشرعية الكفر، أو التجمع على أساس الدم والعشيرة، بدلًا من الاجتماع على الدين والعقيدة.
ولم تزل أمة الإسلام عبر تاريخها كله تتعامل مع الخصوم حربًا وسلمًا، وترسل إليهم الرُّسل والكتب، وتُبرِم معهم العقود والعهود، من غير أن يعني ذلك إقرارًا لهم بالشرعية ولا لدياناتهم بالصحة.
الرافضون للعمل السياسي:
يجادل بعض المشتغلين بالعمل الإسلامي في جدوى العمل السياسي، وفي مشروعيته:
فمن ناحية الجدوى: يرون أنه قد ثبت بالاستقراء الدقيق لتجارب الحركة الإسلامية في هذا المجال أن الجاهلية المعاصرة قد أحكمت قبضتَها على مواقع التأثير والنفوذ، وأنها إن سمحت بجولة مؤقتة للإسلاميين، فريثما تعد العدة لانقضاضة مفاجئة، وضربة مجهضة.
ومن ناحية المشروعية: يرون أنه لا دليل من نصوص الإسلام ولا من سيرة رسوله الكريم ﷺ على مشروعية هذا المنهج.
فالدخول في البرلمانات- فضلًا عن عدم جدواه كما سبق- فيه مجافاة لأبسط حقائق الإسلام التي تقرر أن شريعة الله واجبة التطبيق بأمر الله لا بإجازة البشر، ومعلوم أن الغلبة في هذه المجالس لخصوم الشريعة الذين يحرصون غاية الحرص على أن تكون الأغلبية منهم ليكون القرار بأيديهم، وقد تواصوا جميعًا على تعطيل شريعة الله والسخرية بدعاتها، فكيف يغشى المسلم مجالسهم وفيها يُكفَر بآيات الله ويُستَهزأ بها؟!
وأما الأحزاب: فإن كانت اجتماعًا على الإسلام، فهي مرفوضة ابتداء من قبل هذا النَّظم، ولا يسمح بها، وهي في الأعم الأغلب هياكل صورية تحترف التأييد إن كانت في موقع السلطة، وتحترف المعارضة إن كانت في موقع المعارضة، ومهما كان بينهما من اختلاف فإنها تتفق في الجملة على رفض الإسلام.
ويمكن مناقشة هذه الحجج بما يلي:
أولًا: القول بأن الاستقراءَ الدقيق لتجارب الحركة الإسلامية في هذا المجال يُؤكد أن الجاهليةَ المعاصرة قد أحكمت قبضتَها على مواقع التأثير والنفوذ، وأنها إن سمحت بجولة مؤقتة للإسلاميين، فريثما تعدُّ العُدَّة لانقضاضة مفاجئة، وضربة مجهضة، فإن هذا لا ينطبق على العمل السياسي وحده، بل ينطبق كذلك على جميع الوسائل التي يسعى بها أهلُ الدين لتحكيم الشريعة وإقامة الدين؟ فهل معنى هذا اليأس والانكفاء على الذات، والانسحاب من ميدان السعي لإقامة الدين بالكلية؟!
الجواب بالبداهة: لا! بل نعدُّ العُدَّة، ونبذل الأسباب ونتعامل مع المستجدات في حينها بما يتيسر من الوسائل، والله غالب على أمره!
أما القول بأن شريعةَ الله واجبةُ التطبيق بأمر الله لا بإجازة البشر، ومعلوم أن الغلبة في هذه المجالس لخصوم الشريعة الذين يحرصون على أن تكون الأغلبية منهم ليكون القرار بأيديهم، وقد تواصوا جميعًا على تعطيل شريعة الله، فيُمكن مناقشته بأن الأمة لا تزال على أصل إيمانها بالله ورسوله، فإذا حشدوا في هذه المجالس للانتصار للشريعة، والتمكين لها، فإنهم يؤدون بهذا حقَّ إيمانهم، وما يفرضه عليهم انتماؤهم للإسلام، وشهادتهم لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة، ويقيمون الحجَّةَ على القوم بما يقرُّون به، ويلقون السلم إليه ولو ظاهرًا، وفي الوقت نفسه يحافظون على ما بقي من الشريعة، فلا يتركون المجال لخصوم الدين وأعداءالشريعة يعبثون بالأمة كما يشاءون، ويقصون من شريعتها ما يشاءون، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض( ).
أما التساؤل: كيف يغشى المسلم مجالسهم وفيها يُكفَر بآياتِ الله ويُستَهزأ بها؟! فيناقش بأنه يغشاها منكِرًا عليهم، آمرًا لهم بالمعروف، وناهيًا عن المنكر، ولا يغشاها مقرًّا لهم على باطلهم، ولا مظاهرًا لهم على استطالتهم على الشريعة وبغيهم عليها.
أما الأحزاب، فللقول فيها تفصيلٌ لا يتسع له المقام، وصفوته أنها اجتماعٌ على الإسلام، أو على مشترك من الخيرالعام، الذي يسعى به أصحابه في تقليل المفاسد وتكميل المصالح، وكِلَا الأمرين مقصودٌ شرعًا، فإن مبنَى الشريعة على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسد وتقليلها. والله تعالى أعلى وأعلم.