الشماتة والتقريع بأهل رابعة والنهضة بعد فض اعتصاميهما

شيخنا الجليل، يستغل بعضُ الناس في هذه الأيام القتلَ والإصابات التي نزلت بالمعتصمين في رابعة وميدان النهضة، ومن خلفهم جماعة الإخوان- في إظهار الشماتة والتقريع الذي يتخذ صورة التناصح. ألم نقل لكم كذا وكذا؟! أليس هذا هو الذي كنتم تنكرونه علينا؟! هل ظهر لكم الآن أننا كنا على حق؟! إلى غير ذلك من عبارات ترسخ المرارة، ولا تحمل على قبول نصيحة. فهل لكم من نصيحة؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فليس من أخلاق أهل الإيمان، ولا من أخلاق النبلاء والفرسان، أن تأتي لجريحٍ مكدود، أو لمصاب في أعزِّ عزيزٍ لديه، من زوج أو والد أو ولد، وهو في زحمة أحزانه، وغمرة أوجاعِه، لكي تُبكِّتَه بأخطائه، وتعيِّره بتفريطه وإهماله، أو لتثبت له رجحانَ اجتهادِك على اجتهاده، وسدادَ رؤية حزبك مقارنة بتخبُّطات حزبه وتخليطاته!
إن هذا النهج يهيِّجُ على العناد، ويدفع إلى المكابرة، ويستفز الشياطين الرابضة وراء جلود البشر، ويحمل مُحدِّثك على الاستماتة في الدفاع عن مواقفه، ولو كانت من قبيل الخطأ البحت، والزلل المحض.
إن هذا المشهد الجنائزي الذي يعيشه إخوةٌ لنا، استبسلوا في الثبات على ما اعتقدوه صوابًا، وقضوا صيام شهر رمضان في العراء؛ حيث الشمس المحرقة، والزحام المهلك، ونقص كثير من الوسائل الحياتية: الضرورية أو الحاجيَّة، ثم شاء الله عز وجل أن يبتليهم، وأن يتخذ منهم شهداءَ.
إن هذا المشهد الجنائزي الكربلائي لجدير بالمواساة، والمشاركة التي تأسو الجراحَ، وتخفف من المعاناة، وتبث الطمأنينة والسكينة في النفوس.
لقد ابتُلي أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُدٍ بمعصية رُمَاتهم لأمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا بدأ القرآن بالمواساة، وتخفيف المعاناة، فقال تعالى:{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139- 141].
ما أجمل أن تقول له: كيف أخدمك؟ كلفني بما تريد. ما الذي يمكن أن أُقدِّمه لك؟ أليس هذا من جنس «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا؛ فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ»(1)؟!
ما أجمل أن تواسيه بمثل هذا الحديث القدسي: «مَا لِعَبْدِيَ الْـمُؤْمِنِ جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْـجَنَّة»(2).
وبمثل هذا الحديث: «إِنَّ عِظَمَ الْـجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ الله إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»(3).
ما أجمل أن تقول له: «جراحك جرحي، وبلسم جرحي أني أحبُّكَ. وحين جراحُك تدمي وتكبر، فإني أحبُّك أكثر».
أنكون أدنى مروءة وفروسية من هذا الشاعر غير المسلم إذ يقول:
إني إذا نزل البلاء بصاحبي
دافعت عنه بناجذي وبمِخْلَبي

وشددت ساعدَه الضعيف بساعدي
وسترت منكبَه العرِيَّ بمنكبي

وأرى مساوِءَه كأني لا أرى
وأرى محاسنه وإن لم تُكتَبِ

وألوم نفسي قبله إن أخطَأَت
وإذا أساء إليَّ لم أتعتَّبِ(4)

وحين نكتب ناصحين لإخواننا في هذه الظروف، وباحثين لهم فيها عن مخارج، لا يجمل أن نشفع كتاباتِنا بالحديث عن عبقَرِيَّتِنا، في اكتشاف ذلك، والتنبه له مبكرًا؛ وكأن أحدَنا يقول بلسان حاله: «إنما أوتيته على علم عندي».
ولا ينبغي أن نُلبس نصيحتَنا لبوسًا حزبيًّا أو تنظيميًّا، لنُضيف بها لأحزابنا رصيدًا، أو نسجل لها بها موقفًا، أو نُثبت لها بها تفوقًا، فإن هذا مما يقدح في الإخلاص، ويمهِّد لعدم التوفيق.
دع المواقفَ نفسها هي التي تُشير إلى المصيب بصوابه، وإلى المخطئ بخطَئِه، وهي أفصحُ لسانًا وأحسنُ بيانًا.
هذا موقف تُنسى فيه كل الاحتقانات الحزبية والتنظيمية، ولا تبقى إلا بشاشةُ الإيمان، ونصاعة الأخوَّة الإسلامية، والمولاة الإيمانية، ولنتذكر «إِنَّ الْـمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»(5)، وأن أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى الله وحسن الخلق(6). والله تعالى أعلى وأعلم.

________________

(1) أخرجه أبو داود في كتاب «الجنائز» باب «صنعة الطعام لأهل الميت» حديث (3132)، والترمذي في كتاب «الجنائز» باب «ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت» حديث (998)، وابن ماجه في كتاب «ما جاء في الجنائز» باب «ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت» حديث (1610) من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما. وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».

(2) أخرجه البخاري في كتاب «الرقاق» باب «العمل الذي يبتغى به وجه الله» حديث (6424) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3) أخرجه الترمذي في كتاب «الزهد» باب «ما جاء في الصبر على البلاء» حديث (2396)، وابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «الصبر على البلاء» حديث (4031). وقال الترمذي: «حديث حسن غريب»، وحسنه ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/ 181)، وذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة» حديث (146).

(4) الأبيات لإيليا أبو ماضي؛ وهي من بحر الكامل.

(5) أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في حسن الخلق» حديث (4798) من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكره الألباني في «صحيح سنن أبي داود» حديث (4798).

(6) ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في حسن الخلق» حديث (2004)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «ذكر الذنوب» حديث (4246)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تَقْوَى الله وَحُسْنُ الْـخُلُقِ»، وقال الترمذي: «حديث صحيح».

 

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   05 السياسية الشرعية

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend