العالم الفاضل الدكتور صلاح الصاوي أنت إمامٌ من أئمة العلم بالسياسة الشرعية. هل يجوز الخروجُ في مسيرات؟ مع العلم اليقيني أن هناك قنَّاصة يعتلون المساكنَ ويقذفون بالطلقات الحيَّة في صدور المتظاهرين، والمتظاهرون عُزْلٌ. وأن هذه المسيرات تجعلنا نشعر بقرب النصر.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الأصل في التظاهر أنه ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو إظهارُ عاطفةٍ، أو التعبيرُ عن رأي في صورة مسيرات جماعية، للشكاية من مظلمة، أو التعريف بقضية، أو لتحسين الموقف التفاوضي في أزمة من الأزمات، فينبغي أن يصحبه على التوازي جهودٌ أخرى للتفاوض حول حلول وسطية يرتضيها أطراف النزاع.
وقد نبهنا إلى هذا مرارًا منذ بداية الأزمة، وذكرنا أن سقفَ التفاوض ينبغي أن يكون واقعيًّا، في ظل الظروف التي تحتَفُّ بالأزمة ومستجدَّاتها. ولا بأس بالتنازل عن بعض الحقوق من أجل استنقاذِ بقيتها، وقد أتلف العبدُ الصالحُ السفينةَ لكي تنجو من الملك الظالم(1).
وللأسف فإن الوقت بات متأخرًا جدًّا للحديث عن مبادرات أو مفاوضات، في ظل أرتال الضحايا التي تتساقط يوميًّا على مدار الساعة، على نحو غير مسبوق، حتى في الحروب المعلنة بين الدول.
وأنصار الدعوة إلى استمرار التظاهر يقولون: إنه السبيل المتعيِّن لدفع كارثة محققة تحيط بالذين يرجعون في منتصف الطريق، فإن الثوار الذين يرجعون في منتصف الطريق يحفرون قبورَهم بأيديهم، ويذكرني هذا المشهد بقول القائل:
وَيَحْمِلُني كالصَّقْرِ يَحْمِلُ صَيْدَهُ
وَيَعْلُو به فَوْقَ السَّحابِ يُطَاوِلُهْ
فإنْ فَرَّ مِنْ مِخْلابِهِ طاحَ هَالِكًا
وإن ظَلَّ في مِخْلابِهِ فَهْوَ آكِـــــلُهْ(2)
وأقدَرُ الناس على تقدير ذلك، والموازنة بين مفاسده ومصالحه هم قادةُ المشهد الميدانيون، ونحن فقط نذكر بأنه إذا كان التظاهُر لا يعني إلا الهلكةَ المستيقَنة فينبغي أن يتجه التفكير إلى بدائل أخرى تعصِمُ الدماء، أو تُقلِّل مفاسدَ سفكها وانتهاكها، كالتظاهر الإلكتروني على مواقع التواصل الاجتماعي، وفضح الممارسات القمعية من خلال اليوتيوب، ونحوه، وجمع التوقيعات المليونية، وكتابة الرسائل التعريفية إلى المنظمات الحقوقية الدولية، وتشكيل وفود للتواصُلِ الدولي مع المنظمات الدولية ونحوه.
وبطبيعة الحال ليس من ذلك إعلانُ العنف، ومبادلَةُ القتل بالقتل، وجرُّ البلاد إلى المشهد السوري، فإن مفاسدَ ذلك تربوا على جميعِ المصالح الأخرى، محقَّقةً كانت أو متوَهَّمة، والدعوات التي تنادي بذلك أو تُرشحه مخرجًا ينبغي أن تُراجع نفسها على الفور، فالقوى غيرُ متكافئة، ومسلسل الدماء إذا بدأ لا يتوقف، وإذا كُنَّا نبكي اليوم على بضعة آلاف، فقد نبكي غدًا على مئات الآلاف، وما كارثةُ سوريا عنا ببعيد.
وقد يقودُ ذلك إلى التدخُّل الدولي لتمزيقِ الوطن، وتحويلِه إلى دُوَيلات، وهناك من يتربصون بالوطن الدوائرَ، وينتظرون هذه اللحظة للانقضاض عليه، والسعيد من وعظ بغيره!
أما إذا كان التظاهُر السلمي لا يعني إلا سقوطَ بعض الضحايا الذين يختارهم الله للشهادة، ويُحيي بهم موات الضمائر والقلوب، ويحرِّك بهم هممَ المراقبين للمشهد من القادرين على النصرة لإنقاذ الموقف، واستعادة الحق أو جزء منه، واستحياء بقية المتظاهرين، والحيلولة دون تحوُّلِ الموقف إلى كارثة استئصال وإبادة شاملة- فقد يكون ذلك محتملًا. فما الجهاد إلا التغريرُ بالنفوس لإعزاز الدِّين، وإجلالِ رب العالمين!
وأقدرُ الناس على تقدير ذلك كما سبق هم القادة الميدانيون، فقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وكما قلتُ مرارًا: ليس بيننا الآن نبيٌّ معصوم، يؤخذ منه فلا يرَدُّ عليه، ولكن بقيت لنا الشورى، وما اشتور قوم في أمرٍ قطُّ إلا هُدوا إلى أرشد أمرهم(3).
بقي لنا من قبل ذلك ومن بعده الضراعةُ إلى الله عز وجل أن يحملنا في أحمدِ الأمور عنده، وأجملِها عاقبةً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.وأن نجأر إلى الله دائمًا بهذا الدعاء: اللهم إن الأمرَ عندك، وهو محجوب عنا، ولا نعلم أمرًا نختاره لأنفسنا، فكن أنت المختار لنا. والله تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي في كتاب «البر والصلة» باب «ما جاء في حسن الخلق» حديث (2004)، وابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «ذكر الذنوب» حديث (4246)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تَقْوَى الله وَحُسْنُ الْـخُلُقِ»، وقال الترمذي: «حديث صحيح».
(2) قال تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، ثم قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } [الكهف: 79].
(3) هذا البيت لتميم البرغوثي، شاعر فلسطيني محدث، من قصيدة له من بحر الطويل، مطلعها:
قِفي ساعةً يفديكِ قَوْلي وقائِلُهْ***ولا تَخْذِلي مَنْ باتَ والدهرُ خاذِلُهْ