أعملُ مديرًا عامًّا وأمامي فرصة لشغل منصب كبير بجهة عملي، وتم اختياري ضمن المشرفين على التصويت بانتخابات مجلس الشعب، وقد قيل لي وزملائي صراحةً: إنه غير مسموح بسقوط مرشحي «الوطني»، وإلا فالحرمان من المكافأة وطبعًا من الترقية.
فهل تجوز الاستجابة للتزوير حتى لا أضيع الوظيفة التي يمكن من خلالها العمل على الإصلاح ونشر الخير، علمًا بأنني متديِّن ولا أُحِبُّ اقتراف المعاصي.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد اتفقت الملل والنحل جميعًا على حرمة التزوير والكذب والغش، فهذه مخالفات شرعيَّة وسوْءات خلقية وجرائم قانونية! والمؤمن قد يكون جبانًا، وقد يكون بخيلًا، ولكنه لا يمكن أن يكونَ كذابًا(1)! وشهادة الزور من الكبائر، وقول الزور من الكبائر.
وقد وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان بأنهم لا يشهدون الزور، وفي الحديث: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِالله»، وقرأ قول الله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: 30- 31] (2).
وقال صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الشِّرْكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ». فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت(3)!
والتلويح بعَرَضٍ من الدُّنيا تغنَمُه إذا زوَّرت، أو تفقده إذا صدَقْت- لا يصلح عذرًا شرعيًّا يبرئ ساحتك أمام الله عز وجل ، والذين يجترئون على ذلك لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب.
فاثبت على الحق ما استطعت، واجتنب الباطل ما استطعت، ومن يتوكل على الله فهو حسبه(4). واعلم أن الدُّنيا عرض زائل ومتاع قليل، وأنه كما قال الآخر:
|
أسأل الله أن يلهمك رشدك، وأن يربط على قلبك، وأن يريك الحقَّ حقًّا وأن يرزقَك اتباعَه، وأن يريَك الباطلَ باطلًا وأن يرزقك اجتنابَه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فقد أخرج مالك في «موطئه» (2/990) حديث (1795) من حديث صفوان بن سليم رضي الله عنه أنه قال: قيل لرسول الله: أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: «نَعَمْ». فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ فقال: «نَعَمْ». فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: «لَا». وذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (16/253) وقال: «مرسل مقطوع… ولا أحفظ هذا الحديث مسندًا بهذا اللفظ من وجه ثابت، وهو حديث حسن، ومعناه أن المؤمن لا يكون كذابًا. يريد أنه لا يغلب عليه الكذب حتى لا يكاد يصدق، هذا ليس من أخلاق المؤمنين».
(2) أخرجه أبو داود في كتاب «الأقضية» باب «في شهادة الزور» حديث (3599)، والترمذي في كتاب «الشهادات» باب «ما جاء في شهادة الزور» حديث (2300)، وابن ماجه في كتاب «الأحكام» باب «شهادة الزور» حديث (2372)، من حديث خُرَيم بن فاتك الأسدي رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «هذا عندي أصح، وخريم بن فاتك له صحبة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وهو مشهور».
وأخرجه الطبراني في «الكبير» (9/109) حديث (8569) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/200- 201) وقال: «إسناده حسن».
(3) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الشهادات» باب «ما قيل في شهادة الزور» حديث (2654)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «بيان الكبائر وأكبرها» حديث (87) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
(4) قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
(5) هذا البيت لورقة بن نوفل وهو من بحر البسيط. انظر «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني (3/115).