ما حكم التدرُّج في تطبيق الشريعة؟ أرجو التفصيل الشديد في تلك القضية الهامة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فلا خلافَ على مراعاة مبدأ التدرُّج عندَ تطبيقِ الشريعة، وهو تدرُّجٌ في التنفيذ وليس تدرجًا في التشريع، لأن التشريعَ قد تمَّ واكتمل باكتمال الدين.
ووجه ذلك التدرُّج أننا نُعالج فتنًا وتراكمات، شبَّ عليها الصغيرُ وشاب عليها الكبير، فقد أحدثت هذه العلمانية في الإسلام فتوقًا واسعة، ولابد في معالجتها من الأناة والرويَّة، ومن الشواهد التي تذكر في هذا المقام أن الخليفةَ العادل عمر بن عبد العزيز عندما وَلِـي الخلافة وورث تركة مثقلة من مظالم بني أمية قال له ولده الصالح عبد الملك: ما لك لا تُنفِذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. فكان جواب الخليفة الراشد: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمِلَ الناس على الحقِّ جملةً فيدفعوه جملةً ويكون من ذا فتنة(1).
وقد أشار أغلبُ رموز التيار الإسلامي إلى ضرورة الأخذ بهذه السنَّة الفِطرية عند التوجُّه إلى تطبيق الشريعة:
يقول الأستاذ المودودي في محاضرة له حول كيفية تنفيذ القانون الإسلامي في باكستان: «أريد قبل كل شيء أن أُزيل شبهة تخالج أذهان كثير من الناس حول القانون الإسلامي، فإنهم عندما يسمعون أننا نريد أن نقيم في هذه الدولة حكومة إسلامية يكون القانون الإسلامي هو قانون الدولة فيها يظنون أن جميع القوانين الماضية ستُلغى في تلك الحكومة دفعةً واحدة، وينفذ مكانها القانون الإسلامي فجأة بمجرد إعلان التغيير في نظام الحكومة، وهذه الشبهة لا تخالج أذهان العوام فحسب، بل نجد أنه قد تورطت فيها كثير من طبقاتنا الدينية أيضًا، كأني بهؤلاء يرون من اللازم أن يتوقف تنفيذُ كلِّ قانون غير إسلامي، ويبدأ مكانه تنفيذُ القانون الإسلامي في البلاد بمجرد قيام الحكومة الإسلامية فيها…».
ثم شرع : في تفنيد هذا التصور، وبيَّن أن التدرُّجَ قاعدة فطرية لا تقبل التغيير فقال: «فنحن إن كنا نريدُ حقًّا أن يحالفنا التوفيق في إلباسِ هذه الفكرة حُلَّةَ العمل والتنفيذ لا ينبغي أن نغفُل قاعدة للفطرة لا تقبل التغيير، وهي أنه لا يحدث انقلاب في الحياة الاجتماعية إلا بالتدرُّج، ولابد أن يكون كلَّ انقلاب بدا غير محكم على قدر ما يكون فوريًّا متطرفًا، ولابد لكل نظام راكزِ المبادئ والأصول أن يجري في كل جهة من جهات الحياة وناحيةٍ من نواحيها باتِّزَان تامٍّ، حتى تُساند كل ناحية منه نواحيه الأخرى…».
ثم استشهد : بالتدرُّج الذي وقع إبان العهد النبوي الزاهر وساق مثالًا بما فعله الإنجليز في الهند، وانتهى إلى القول: «فنحن إن كنا نُريد الآن إحياء القانون الإسلامي وتنفيذه من جديد في دولتنا الفتية فإنه من المستحيل قطعًا أن نمحو آثار الحكم الإنجليزي ونُثبت مكانها آثارنا الجديدة من عندنا بهزة واحدة من القلم…
فمن المحتوم إذن ألا يتمَّ هذا الإصلاح والتغيير المنشود إلا على مبدأ التدرُّج، ولا أن يتغيَّر نظامنا للقانون إلا بطريق متَّزنٍ يُساير التغيرات الخلقية والثقافية والاجتماعية والمدنية والاقتصادية في البلاد»(2).
ويجعل الدكتور يوسف القرضاوي مراعاة هذه السنة أحدَ المبادئ الثلاثة التي يجب أن تُوضع في الاعتبار عند الاتِّجاه إلى تطبيق النظام الإسلامي فيقول: «المبدأ الثالث هو مبدأ التدرُّج الحكيم الذي نهجه الإسلام عند إنشاء مجتمعه الأول، فقد تدرَّج بهم في فرض الفرائض كالصلاة والصيام والجهاد، كما تدرج بهم في تحريم المحرمات كالخمر ونحوها، وعند تجدُّد ظروف مماثلة لظروف قيام المجتمع الأول أو قريبة منها، نستطيع الأخذ بهذه السنة الإلهية، سنة التدرج، إلى أن يأتي الأوان المناسب للحسم والقطع، وهو تدرج في التنفيذ وليس تدرجًا في التشريع، فإن التشريعَ قد تمَّ واكتمل بإكمال الدِّين، وإتمام النعمة، وانقطاع الوحي(3).
ويشير إلى هذا المعنى أيضًا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه «الحدود الشرعية كيف نطبقها ومتى؟» راجع من ص25 إلى ص27 من هذا الكتاب.
لا منازعة إذن في مبدأ التدرُّج لمعالجةِ الفتوقِ العظيمة، ولكن المنازعة مع هؤلاء الأدعياء الذين كانوا يخدرون الأمة بهذه الدعاوى في ظل الأوضاع السابقة، ممن يجعلون من هذا التدرُّج ذريعةً لتعطيل العمل بالشريعة وتجميد أحكامها بصفة نهائية، فإن سئلوا قالوا: التدرُّج والحكمة والمواءمات السياسية، والله يعلم أن القضية ليست قضية تدرج، وإنما هو أمرٌ بُيِّتَ بليل، وأنهم تقاسموا على أن لا يتقدموا خطوة واحدة نحو الإسلام، وإنما هي كلمات هم قائلوها لتكون ملهاةً للجماهير وتخديرًا لمشاعر الشعوب.
وأحسب أن هذه الأوضاع قد تغيَّرت في ظل حملة المشروع الإسلامي الذي يشهد تاريخهم بإيمانهم بمرجعية الشريعة، وأنهم ممن وقفوا حياتهم لنصرتها.
فالتدرُّج المقبول هو التدرج المجَدْوَل المبرمج، الذي ينطلق من خُطط وبرامج جادة، ويرتبط بمراحل زمنية محددة، فلا يمرُّ على أصحابه يومٌ إلا وقد تقدموا خطوة نحو الإسلام لتنهض شاهدًا عدلًا لهم على ما يدعون.
والمرجع في تحديد مثل هذه الجدولة إلى الخبراء من فقهاء السياسة الشرعية وأهل الحَلِّ والعقد في الأمة، ولا مدخل في هذا للعامة وأشباه العامة، اللهم إلا واجب الرقابة والنصح العام. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) «سيرة عمر بن عبد العزيز» لعبد الله بن الحكم ص57.
(2) «القانون الإسلامي وطرق تنفيذه للمودودي» (48-54).
(3) «بينات الحل الإسلامي» للقرضاوي ص229.