ما شرح حديث «كَثْرَةُ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ»(1)؟ وهل لا نضحك؟ وكيف نُوفِّق بين هذا الحديث وضحك النبيِّ ﷺ في أحاديث أخرى حتى بانت نواجذه(2)؟
_____________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب «الزهد» باب «الحزن والبكاء» حديث (4193) من حديث أبي هريرة ، وذكره الكناني في «مصباح الزجاجة» (4/233) وقال: «هذا إسناد صحيح».
(2) من الأخبار التي ورد فيها ضحك النبي ﷺ ما أخرجه أبو داود في كتاب «الأدب» باب «في اللعب بالبنات» حديث (4932) من حديث عائشة ل قالت: قدم رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها (مكان مجوف في الحائط) سترٌ، فهبَّت ريحٌ فكشفت ناحية السِّتر عن بناتٍ لعائشة- أي: لُعبٍ- فقال: «مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟» قالت: بناتي. ورأى بينهنَّ فرسًا له جناحان من رقاعٍ فقال: «مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟» قالت: فرسٌ. قال: «وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟» قالت: جناحان. قال: «فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ؟!» قالت: أما سمعت أنَّ لسليمان خيلًا لها أجنحةٌ! قالت: فضحك حتَّى رأيت نواجذه. وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4932).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن المذمومَ في الحديث كثرةُ الضحك، وليس مُجرَّد الضحك، فإن الضحكَ من خصائص الإنسان، ولم يأتِ الإسلامُ بما يُصادم الفطرةَ ويُناقضها، ولكن الشيءَ إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه كما يقولون، وقد كان النَّبيُّ ﷺ إذا دخل بيتَه مِن أَفْكَه النَّاس ضحَّاكًا بسامًا(1). وقد جمع بعضُهم المواضعَ التي ضحك فيها النَّبيُّ ﷺ حتى بدت نواجذه في كتابٍ سمَّاه «مشارق الأنوار المنيفة في ظهور النواجذ الشريفة». وقد سُئل ابن سيرين عن الصَّحابة: هل كانوا يتمازحون؟ فقال: «ما كانوا إلا كالنَّاس، كان ابن عمر يمزح وينشد الشَّعر». رواه أبو نعيم في «الحلية» (2/275).
وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: «لم يكن أصحابُ رسول الله ﷺ مُتحزِّقين ولا مُتماوتين؛ كانوا يتناشدون الأشعار ويذكرون أمر جاهليَّتهم، فإذا أُريد أحدُهم على شيءٍ من أمر دِينه دارت حماليق عينيه كأنه مجنونٌ»(2).
والتحزُّق كما يقول الإمام الخطابي: «التجمُّع وشدة التقبض».
ولكن الضحك والإضحاك له آدابٌ نوجزها فيما يلي:
• أولها: ألا يكون مبناه على الكذب والاختلاق؛ فقد كان ﷺ يمزح ولا يقول إلا حقًّا(3)، وهو القائل: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلُ لَهُ»(4).
• ثانيًا: ألا يكون مبناه على تحقير الآخرين والسخرية منهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات: 11].
وقد أخرج مسلم في «صحيحه» قولَ النَّبيِّ ﷺ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْـمُسْلِمَ»(5).
• ثالثًا: ألا يكون مبناه على ترويع الآخرين وتفزيعهم؛ فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه قال: حدَّثنا أصحابُ محمد ﷺ أنهم كانوا يسيرون مع النَّبيِّ ﷺ فقام رجلٌ منهم، فانطلق بعضُهم إلى حبلٍ معه فأخذه، ففزع، فقال رسولُ الله ﷺ: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا»(6).
• ألا يكون في موضعٍ يستوجب الجِدَّ أو البكاء، فلقد رآى ابنُ مسعود رجلًا يضحك في جِنازة فثَرَّب عليه وقال له: (أتضحك وأنت تتبع جنازة! والله لا أكلمك أبدًا)»(7).
• وأخيرًا الاعتدال والتوازن والتوسط؛ فإن كثرةَ الضحك تُميت القلبَ كما جاء في هذا الحديث.
زادك اللهُ حرصًا وتوفيقًا، واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) فقد أخرج البخاري في كتاب «الجهاد والسير» باب «من لا يثبت على الخيل» حديث (3036) من حديث جرير بن عبد الله عز وجل قال: ما حجبني النبي ﷺ منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (5/278) حديث (26058).
(3) فقد أخرج ابن سعد في «الطبقات» (8/224) مرسلًا من حديث محمد بن قيس قال: «جاءت أم أيمن إلى النبي ﷺ فقالت: احملني. قال: «أحملك على ولد الناقة». فقالت: يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريده. فقال: «لا أحملك إلا على ولد الناقة». يعني أنه كان يُمازحها، وكان رسول الله يمزح ولا يقول إلا حقًّا، والإبل كلها ولد النوق.
(4) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/5) حديث (20058)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «في التشديد في الكذب» حديث (4990)، والترمذي في كتاب «الزهد» باب «فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس» حديث (2315) من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه ، وقال الترمذي: «حديث حسن».
(5) أخرجه مسلم في كتاب «البر والصلة والآداب» باب «تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه» حديث (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(6) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/362) حديث (23114)، وأبو داود في كتاب «الأدب» باب «ما يأخذ الشيء على المزاح» حديث (5004) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب محمد ﷺ، وذكره ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/404) وقال: «أبو داود وأحمد وهو صحيح».
(7) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/11) حديث (9271).