ما معنى الصدقة عن ظهر غنى؟ وما الفرق بين من يستعفف ومن يستغن في الحديث الآتي: عن حكيم بن حزامٍ ، عن النبي ﷺ قال: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى, وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ, وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى, وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللهُ, وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ»(1). جزاكم الله خيرًا.
_______________
(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الزكاة» باب «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» حديث (1428)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى» حديث (1034)، من حديث حكيم بن حزام ، واللفظ للبخاري.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن معنى الصدقة عن ظهر غنى أن أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنيًا بما بقي معه، وتقديره: أي بقي له بعدها غنى يستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدَّق بجميع ماله؛ لأن من تصدق بالجميع يندم غالبًا أو قد يندم إذا احتاج، ويودُّ أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيًا فإنه لا يندم عليها بل يسر بها.
وفي «فتح الباري»: «والمختار أن معنى الحديث: أفضل الصدقة ما وقع بعد القيام بحقوق النفس والعيال، بحيث لا يصير المتصدق محتاجًا بعد صدقته إلى أحد، فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية كالأكل عند الجوع المشوش الذي لا صبر عليه، وستر العورة، والحاجة إلى ما يدفع به عن نفسه الأذى، وما هذا سبيله فلا يجوز الإيثار به بل يَحرُم، وذلك أنه إذا آثر غيره به أدَّى إلى إهلاك نفسه أو الإضرار بها أو كشف عورته، فمراعاة حقه أولى على كل حال، فإذا سقطت هذه الواجبات صح الإيثار وكانت صدقته هي الأفضل لأجل ما يتحمل من مضض الفقر وشدة مشقته، فبهذا يندفع التعارض بين الأدلة إن شاء الله»(1).
أما قوله ﷺ: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفِ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ»، فإن هاتين الجملتين متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقًا به دون المخلوقين، فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، وفي كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبدًا لله حقًّا حُرًّا من رقِّ المخلوقين. وذلك بأن يجاهد نفسـه على أمرين:
• انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله؛ ولهـــذا قال ﷺ لعمر: «مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»(2)، فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان تعففًا وترفعًا عن مِنن الخلق وعن تعلق القلب بهم سببٌ قوي لحصول العفة. وتمام ذلك: أن يجاهـد نفسه على الأمر.
• الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه(3). وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم: أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، إن ظنَّ خيرًا فله، وإن ظن غيره فله(4)، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقـه بالمخلوقين وبالعكس. والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________
(1) «فتح الباري» (3/296).
(2) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الزكاة» باب «من أعطاه الله شيئا من غير مسألة ولا إشراف نفس» حديث (1473)، ومسلم في كتاب «الزكاة» باب «إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف» حديث (1045)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
(3) قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 3].
(4) ففي الحديث الذي أخرجه أحمد في «مسنده» (2/391) حديث (9065)، وابن حبان في «صحيحه» (2/405) حديث (639)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله ﷺ: أن الله عز و جل قال: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ»، وذكره الألباني في «صحيح الجامع» حديث (4315).