وجدت هذا الكلام عن ابن مسعود في كتاب «فقه السنة»، باب سنن الصلاة- مسألة رفع اليدين، وقد اشتدَّت عليَّ هذه العبارة، أعلم أن لا معصوم إلا رسول الله ، ولكن مثل هذا الكلام ألا ينقص من شأن ابن مسعود؟ والعبارة هي: «وجوَّز صاحب التنقيح أن يكون ابن مسعود نسي الرفع كما نسي غيرَه. قال الزيلعي في نصب الراية نقلا عن صاحب التنقيح: ليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يُستغرب، فقد نسي ابن مسعود من القرآن ما لم يختلف فيه المسلمون بعد، وهما المعوِّذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه، كالتطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي ما لا يختلف العلماء فيه أن النبي صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي كيفية جمع النبي بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف يقرأ النبي ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ [الليل: 3] وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة، كيف لا يجوز أن ينسى مثله في رفع اليدين؟!»(1).
1- أليس الجمع بين الروايتين يمكن على سبيل التنوع مثلًا ولو كانت رواية ابن مسعود شاذة؟
2- وما حقيقة نسيانه في المسائل المذكورة؟
3- وأليس مثل هذا نسيانًا يجعل الراوي ضعيفًا؟
جزاك الله خيرًا، وجعل حرصَكم علينا في ميزان حسناتكم، إنه جواد كريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فلعلي أبدا تعقيبي على ما أوردته عن ابن مسعود رضي الله عنه بأن أقدم لك هذه الباقة اليسيرة من المناقب التي ننقلها لك من أوثق كتب السنة من البخاري ومسلم، ثم نناقش بعده ما نسب إليه من نسيان في بعض المواضع.
– عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 93]. قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قِيلَ لِـي: أَنْتَ مِنْهُمْ»(2).
– عن أبي موسى قال: قدمتُ أنا وأخي من اليمن، فكنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمَّه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ من كثرة دخولهم ولزومهم له(3).
– عن أبي الأحوص قال: كنا في دار أبي موسى مع نَفَر من أصحاب عبدالله وهم ينظرون في مصحف، فقام عبد الله، فقال أبو مسعود: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم. فقال أبو موسى: أما لئن قلت ذاك، لقد كان يشهد إذا غِبنا، ويُؤذَن له إذا حُجِبنا(4).
– عن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه : والله الذي لا إله غيره، ما أُنزلَتْ سورةٌ من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه(5).
– عن مسروق، قال: ذكروا ابن مسعود عند عبد الله بن عمرو، فقال: ذاك رجل لا أزال أُحبُّه بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ»(6). أي: خذوا القرآن من أربعة.
قال العلماء: سببه أن هؤلاء أكثر ضبطًا لألفاظه، وأتقن لأدائه، وإن كان غيرهم أفقهَ في معانيه منهم. أو لأن هؤلاء الأربعة تفرغوا لأخذه منه رضي الله عنه مشافهة، وغيرُهم اقتصروا على أخذ بعضهم من بعض. أو لأن هؤلاء تفرغوا لأن يُؤخذ عنهم. أو أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلامَ بما يكون بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من تقدُّم هؤلاء الأربعة وتمكُّنهم، وأنهم أقعد من غيرهم في ذلك، فليؤخذ عنهم.
ثم يبقى بعد هذا- أيها الموفَّق- أن الصحابة بشر من البشر، فتعتريهم العوارض البشرية من النسيان والخطأ ونحوه، ولم يقل أحد من أهل السنة بعصمة الصحابة في آحادهم، وإنما هم معصومون بمجموعهم فلا يُجمِعون على ضلالة أبدًا(7)، وأعمالهم في الجملة تدور بين سعي مشكور أو ذنب مغفور.
إن مُفرَدات عِلم ابن مسعود تُعَد بالآلاف المؤلفة، وتوزن بالقناطير المقنطرة، فهو كُنَيْفٌ مُلئ علمًا- كما وصفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه (8)، فما يضيره أن ينسى خمسة مسائل أو عشرة أو أقل أو أكثر، ثم يُذكَّر فيتذكر، ويراجَع فيرجع؟! وإذا جاز وقوع النسيان من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فكيف لا يجوز على من هُم دونه من أصحابه وأتباعه رضي الله عنهم؟!
لقد أجمع أهل العلم على وقوع النسيان منه صلى الله عليه وسلم فيما ليس مأمورًا فيه بالبلاغ مثل الأمور العادية والحياتية، وأن هذا جائز مطلقًا؛ لما جبل عليه من الطبيعة البشرية، أما وقوع النسيان منه فيما هو مأمور فيه بالبلاغ فهو جائز بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه النسيان بعدما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلًا.
الشرط الثاني: أن لا يستمرَّ على نسيانه، بل يحصل له تذكُّره إما بنفسه، وإما بغيره، فقد روى الشيخان عن عائشة ل أنها قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقرأ في المسجد فقال: «رَحِمَهُ اللهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهُنَّ مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا»(9).
وهو القائل صلى الله عليه وسلم : «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؛ أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ»(10).
قال القاضي عياض :(11): «يجوز النسيان عليه ابتداء فيما ليس هو مأمور فيه بالبلاغ، واختلفوا فيما هو مأمور فيه بالبلاغ والتعليم، ومن ذهب إلى الإجازة قال: لابد أن يتذكَّره أو يذكِّره به أحد». اهـ.
نقول: إذا صح هذا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف يُستنكَر وقوعُ النسيان من ابن مسعود؟! وكيف يُتخَّذ من هذا ذريعة للطعن فيه أو تنقُّصه؟! إن الماء يا بني إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث(12)، وإذا كثرت فضائل الرجل واستفاضت حسناته فإنه يُوهب نقصه- إن وجد- لفضله، فاعرف لأصحاب رسول الله قدرَهم، ولا تُصغِ لمن جعلوهم غَرَضًا، واعقد قلبك على موالاتهم جميعًا، والترضِّي عنهم جميعًا، ومحبتهم جميعًا، على منازلهم التي أنزلهم الله إياها، وسَلِ الله أن يحشرك معهم، فقد حسُن أولئك رفيقًا(13)، زادك الله تقى وهدى. والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) «فقه السنة» (1 /144).
(2) أخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما» حديث (2459).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه » حديث (3763)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما» حديث (2460).
(4) أخرجه مسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما» حديث (2461).
(5) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «فضائل القرآن» باب «القراء من أصحاب النبي» حديث (5002)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم» باب «من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما» حديث (2463).
(6) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «المناقب» باب «مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه » حديث (3760)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رضي الله تعالى عنهما» حديث (2464).
(7) فقد أخرج الترمذي في كتاب «الفتن» باب «ما جاء في لزوم الجماعة» حديث (2167)، والحاكم في «مستدركه» (1/199) حديث (391)، والطبراني في «الكبير» (12/447) حديث (13623)، كل من حديث ابن عمر رضي الله عنه . ولفظ الترمذي: «إِنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضَلَالَةٍ وَيَدُ الله مَعَ الْـجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ»، ولفظ الحاكم: «لَا يَجْمَعُ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى الضَّلَالَةِ أبدًا». وقال: «يَدُ الله عَلَى الْـجَمَاعَةِ فَاتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ»، ولفظ الطبراني: «لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي على الضَّلالَةِ أَبَدًا فَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعَةِ فإن يَدَ الله على الْـجَمَاعَةِ».
وأخرج ابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «السواد الأعظم» حديث (3950) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، بلفظ: «إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ».
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (1/716- 717): (حديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» أحمد في «مسنده» والطبراني في «الكبير» وابن أبي خيثمة في «تاريخه» عن أبي بُصرة الغفاري مرفوعًا في حديث «سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها»، والطبراني وحده وابن أبي عاصم في «السنة» له عن أبي مالك الأشعري رفعه «إن الله أجاركم من ثلاث» وذكر منها «وأن لا تجتمعوا على ضلالة»، وأبو نعيم في «الحلية» والحاكم في «مستدركه» وأعله، واللالكائي في «السنة» وابن منده ومن طريقه الضياء في «المختارة» عن ابن عمر رفعه «إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار». وهكذا هو عند الترمذي لكن بلفظ «هذه الأمة» أو قال: «أمتي». وابن ماجه وعبد في «مسنده» عن أنس مرفوعًا «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم». والحاكم في «مستدركه» عن ابن عباس رفعه بلفظ: «لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة» والجملة الثانية منه عند الترمذي وابن أبي عاصم وغيره عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري موقوفًا في حديث «وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة». زاد غيره: «فإياكم والتلون في دين الله». والطبري في «تفسيره» عن الحسن البصري مرسلًا بلفظ أبي بصرة. وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره، فمن الأول «أنتم شهداء الله في الأرض». ومن الثاني قول ابن مسعود: إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده ففي سنة رسول الله فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد).
(8) أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (10/13) حديث (18187)، والطبراني في «الكبير» (9/349) حديث (9735)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/303) وقال: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح».
(9) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «فضائل القرآن» باب «نسيان القرآن» حديث (5037)، ومسلم في كتاب «صلاة المسافرين» باب «الأمر بتعهُّد القرآن» حديث (788).
(10) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب «الصلاة» باب «التوجه نحو القبلة حيث كان» حديث (401)، ومسلم في كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب «السهو في الصلاة» حديث (572) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
(11) «إكمال المعلم» (2/286).
(12) أخرجه أحمد في «مسنده» (2/12) حديث (4605)، وأبو داود في كتاب «الطهارة» باب «ما ينجس الماء» حديث (63)، والترمذي في كتاب «الطهارة» حديث (67)، وابن ماجه في كتاب «الطهارة وسننها» باب «مقدار الماء الذي لا ينجس» حديث (518)، والدارمي في كتاب «الطهارة» باب «قدر الماء الذي لا ينجس» حديث (758)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه . وذكره النووي في «خلاصة الأحكام» (1/66) وقال: «صحيح صححه الحفاظ».
(13) قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69].