الخلاف والاختلاف بين المدح والذم

نعلم أن الاختلافَ بين الناس أمرٌ طبيعي، وهو من السنن الكونية، وكذلك محمود هو احترامُ الرأيِ والرأيِ الآخر، ويجب علينا أن نراعي أدبَ الخلاف، وكل ما سبق لا ينكره إلا جاهلٌ متشدِّدٌ. ولكن سؤالي هو:
هل هو ظاهرة صحية ونفعية للناس وللمسلمين؟ أم أنه مذموم في الشريعة، ويجب التخلص منه ما أمكن؛ لأنه من أسباب ضعف الأمة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]أما الرضا به وتسميته رحمةً فخلاف الآيات الكريمة المصرحة بذَمِّه، قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فاصل الآيات إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾} [هود: 118، 119] ومن الأمور التي تجعلني غير مستوعِب أمرَ الخلاف أهو محمود أو مذموم قول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]وجزاكم الله خيرًا.

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن المشروعَ: أن نسعى إلى تضييق دائرة الاختلاف ما أمكن؛ فإن نصوص الشريعة قد أمرت بالجماعةِ والائتلاف، ونهت عن الفرقة والاختلاف(1)، وأَمَرَتنا بردِّ الأمورِ المتنازَعِ فيها إلى الله ورسوله(2)، وسبيلُنا إلى ذلك إنما يكون بالبيِّنات وبالحجج العلمية وبالمجادلة بالتي هي أحسن، فمَن ظهر له رجحانُ أحد القولين في المسائل الاجتهادية عَمِلَ به، ولم ينكر على من ظَهَرَ له رجحانُ القولُ الآخر.
وأما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118] فإنه يدخل فيه المفارِقون لهذه الأمة في أصل الملةِ كاليهود والنصارى ونحوهم، كما يدخل فيها المخالفون لها في أصلٍ من أصولِ السنةِ كسائر فِرَقِ الضلالة التي تنتسب إلى القِبلةِ.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 119] لا يدخل فيه أهلُ الاختلاف الفروعي في المسائل الاجتهادية؛ لأن مثلَ هذا الخلاف قد وقع ممن حَصَلَ لهم محضُ الرحمةِ، وهم صحابة النبي ﷺ، وهم أَوْلَى الناس بالدخولِ في هذا الاستثناء: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ [هود: 119] بلا نزاع.
فالمحذور والمحظور ليس وقوع الاختلاف في الفروعيات، بل جعلها معاقدَ ولاء وبراء، وتشرذم الأمةِ بسببها، أما مع المنهج الذي سنَّه لنا الأئمةُ بقولهم: «رأيُنا هذا صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأٌ يحتمل الصواب» فلا خطر في مثل هذا الاختلاف، بل قد يكون بابًا من أبواب التوسعة والرحمة.
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع في «الفتاوى» مقولةَ بعضِ أهل العلم: «إجماعُهم حجةٌ قاطعةٌ، واختلافهم رحمةٌ واسعةٌ»(3).
وكَتَبَ رجلٌ كتابًا في اختلاف العلماء وسماه «كتاب الاختلاف»، فقال له الإمام أحمد: «سمِّه: كتاب السَّعة».
وقد عرض ثلاثة من خلفاء بني العباس على الإمام مالك أن يجعلوا من كتابه «الموطأ» المرجعَ الرسميَّ للدولة الإسلامية، فأبى ذلك، معلِّلًا بأن الصحابة قد تفرَّقوا في الأمصار، ولدى كلِّ واحدٍ من العِلْمِ ما ليس عند الآخرِ وأن ردَّ العامة عما أَلِفُوه أمرٌ عسير. وكان هذا- ك

ما يقول ابن كثير- من تمامِ عِلمِه وعدلِه واتِّصَافِه بالإنصاف(4). والله تعلى أعلى وأعلم.

________________________________

(1) قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103].

وأخرج الترمذي في كتاب «الفتن» باب «ما جاء في لزوم الجماعة» حديث (2167)، والحاكم في «مستدركه» (1/199) حديث (391)، والطبراني في «الكبير» (12/447) حديث (13623)، كل من حديث ابن عمر رضي الله عنه . ولفظ الترمذي: «إِنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي- أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ- عَلَى ضَلَالَةٍ وَيَدُ الله مَعَ الْـجَمَاعَةِ وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ»، ولفظ الحاكم: ««لَا يَجْمَعُ اللهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى الضَّلَالَةِ أبدًا». وقال: «يَدُ الله عَلَى الْـجَمَاعَةِ فَاتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ»»، ولفظ الطبراني: «لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي على الضَّلالَةِ أَبَدًا فَعَلَيْكُمْ بِالْـجَمَاعَةِ فإن يَدَ الله على الْـجَمَاعَةِ».
وأخرج ابن ماجه في كتاب «الفتن» باب «السواد الأعظم» حديث (3950) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، بلفظ: ««إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ»».
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (1/716- 717): (حديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» أحمد في «مسنده» والطبراني في «الكبير» وابن أبي خيثمة في «تاريخه» عن أبي بُصرة الغفاري مرفوعًا في حديث «سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها»، والطبراني وحده وابن أبي عاصم في «السنة» له عن أبي مالك الأشعري رفعه «إن الله أجاركم من ثلاث» وذكر منها «وأن لا تجتمعوا على ضلالة»، وأبو نعيم في «الحلية» والحاكم في «مستدركه» وأعله، واللالكائي في «السنة» وابن منده ومن طريقه الضياء في «المختارة» عن ابن عمر رفعه «إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا وإن يد الله مع الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار». وهكذا هو عند الترمذي لكن بلفظ «هذه الأمة» أو قال: «أمتي». وابن ماجه وعبد في «مسنده» عن أنس مرفوعًا «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم». والحاكم في «مستدركه» عن ابن عباس رفعه بلفظ «لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة ويد الله مع الجماعة» والجملة الثانية منه عند الترمذي وابن أبي عاصم وغيره عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري موقوفًا في حديث «وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة». زاد غيره «فإياكم والتلون في دين الله». والطبري في «تفسيره» عن الحسن البصري مرسلًا بلفظ أبي بصرة. وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره، فمن الأول «أنتم شهداء الله في الأرض». ومن الثاني قول ابن مسعود: إذا سئل أحدكم فلينظر في كتاب الله فإن لم يجده ففي سنة رسول الله فإن لم يجده فيها فلينظر فيما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد).

(2) قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

(3) «مجموع الفتاوى» (30/80).

(4) انظر: «اختصار علوم الحديث» لابن كثير (1/115).

تاريخ النشر : 26 ديسمبر, 2017
التصنيفات الموضوعية:   04 أصول الفقه وقواعده

فتاوى ذات صلة:

Send this to a friend