تعدَّيتُ الأربعين وأعمل في وظيفة محترمة، وفي إحدى زياراتي لوالدي في أوَّل رمضان منذ ثلاث سنوات قام بالتعدِّي عليَّ سبًّا وقذفًا على مرأى ومسمعٍ من إخوتي وزوجاتهم وزوجتي وأولادي والجيران ومن دون سبب على الإطلاق، مما اضطرني إلى مقاطعته تجنُّبًا لمزيدٍ من تعديه عليَّ، إلا أنه قد تمادى في هذا الأمر حتى إنه قد أتى إلى شقتي وقام بتكسير السقف الخاص بها والتعدي عليَّ أيضًا أمام الجيران، وبعض من إخوتي تواجدوا معه وقاموا بتكسير السقف، وذلك لـمُدَّة أكثر من ثلاث ساعات، حتى أصيبت ابنتي الكبرى بانهيار عصبيٍّ مما رأته من جدِّها، ومنذ هذا الوقت وأنا قاطعته تمامًا وقاطعت إخوتي جميعهم، فما هو رأيكم في هذا؟
مع العلم بأنني لم أُقصِّر في حقه يومًا ما أو في حق إخوتي، وقد علمتُ مُؤخَّرًا أن السَّبَب فيما قام به هو طمع إحدى أخواتي في شَقَّةٍ قمت ببنائها في قريتنا لأولادي من حرِّ مالي، وهم يُريدون أن أقومَ بترك الشَّقَّة التي أقيم فيها والانتقال للشقة التي بنيتها على الرغم من أن ظروف عملي ودراسة أولادي لا تسمح لي بذلك، وقد أقنعوا والدي بذلك وقام هو دون تفكير بفعل ما ذكرته، وحتى الآن ما زلت أقاطعه وليس لديَّ أية رغبة في لقائه مَرَّة أخرى، فما هو رأيكم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فقد كُتب على ابن آدم حظُّه من البلاء، ولا يزال البلاء بالعبد المؤمن حتى يـمشي على الأرض وليست عليه خطيئة(1)، وقد قال ربُّك جلَّ وعلا: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: 20].
ويبقى أيُّها المبارك أن للوالد من الحرمة ومن الحقوق ما لا تستطيع الوفاءَ به وإن اجتهدت، فلا تجعل من جفائه لك بسبب فتنةٍ عارضة مُسوِّغًا لهجره ولقطيعته، فإنه لا يَحِل لك، وإذا كان لا يَحِل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ أتظن أنه يَحِلُّ له أن يهجر أباه؟! ليس أمامك إلا الصَّبْر عليه يا بني والتَّلطُّف في خطابه، والبشاشة في لقائه، وبذل كلِّ صنوف البِرِّ والإحسان الممكنة، وكن على يقينٍ أنه لابُدَّ أن تنجلي هذه الغاشية في لحظةٍ من اللحظات، سيثوب أبوك إلى رشده يومًا من الدهر إن شاء الله، وسيذكر لك أنك كنتَ الولد البارَّ الصبور، وأنك لم تتورَّط في عقوقه طَرْفة عين، كم تكبر ساعتَها في عينه، وكم تكبر في عين الله قبل ذلك.
اصبر يا بني وصابر، وجاهد نفسك في برِّك بأبيك وصبرك على جفائه، واضرع إلى الله في الأسحار أن يرفع عنك هذا البلاء، وأن يقذف في قلب والدك الرَّحْمة بك، والإحساس بمعاناتك، وأن يمسح عليك بيمينه الشَّافية، وأن يجمع لك بين الأجر والعافية. زادك اللهُ برًّا وتوفيقًا. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
___________________
(1) فقد أخرج الترمذي في كتاب «الزهد» باب «ما جاء في الصبر على البلاء» حديث (2398) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ؛ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». وقال: «حديث حسن صحيح».