سيدي، تردَّدت كثيرًا قبل أن أكتب إليك، حاولتُ ألا أشكو حتى أُثاب من الله على صبري، ولكن مشكلتي فاقت حدَّ الصبر، ولو على الصبر لصبرتُ، أَمَا وقد أصبح الكلام ضروريًّا حتى أُنقذ ما يمكن إنقاذه وحتى لا يُعاتبني الله على أنني لم أفعل كلَّ ما بوسعي فسوف أرمي عليك مشكلتي مناديةً بك وبكل علماء الدين وكل علماء العلوم الأخرى ممن يمكنك الاستعانة بهم لتقديم حلٍّ إليَّ:
لقد تُوفي والداي خلال سنة واحدة أو أقل، تاركين خلفهم عددًا غير قليلٍ من البنات وولدين، أما عن الولدين فقد أعلنا يوم الوفاة الثَّانية عدم تحمُّلهم لمسئولية البنات للأسباب الآتية:
الأول الأكبر: فقد ادَّعى للناس أن البنات سرقوا ميراثه من أبيه؛ لذلك سوف يُقاطعهم للأبد، وهذا لم يحدث، ولم يحدث حتى شيء شبيه به، وأقسم بالله على ذلك، والأمر لا يحتاج لإثباتٍ، فالرجل كان عاملًا بسيطًا، والأخ لا يملك ولو أصغر دليلٍ على ذلك، حتى إنني عرضت عليه أن أدفع له ما يعتقد أننا أخذناه بغير وجهِ حقٍّ مقابل أن يتقي الله فينا فلم يُجب.
الثاني: كان أكثرَ أمانةً من الأول، فقد قال من دون أي تفكير: إن البنات- يقصد أخواته- تربَّوْا في بيئةٍ غير مستقرة، ولابد أن ينحرفن، وإن كلَّ الكتب التى قرأها تُخبر بذلك.
نعم، لقد حكم علينا بالانحراف مسبقًا، وعلى هذا سيدي عشنا أعوامًا كثيرة وحدنا، تعرَّضنا فيها لكلِّ أنواع المشاكل التي يُمكن أن يُواجهها بناتٌ يعيشون بمفردهم، لك أن تتخيَّل كلَّ ما يُمكن أن تتخيَّله من المشاكل، وبفضل الله تحمَّلنا وصبرنا ولم ننحرف كما تنبَّأ أخونا الثاني، ولم يُرهقنا أو يتعبنا في هذه المشاكل سوى شيء واحد فقط، هو استغاثتنا بهم وعدم تلبية النداء في كل مرة ولا حتى بالسُّؤال عن نتيجة المشكلة التي واجهناها، وليت الأمر عند ذلك فقط، فقد تسبَّب تخلِّيهم عنا أمام النَّاس الذين يعلمون بوجودهم على قيد الحياة إلى طمع كلِّ النَّاس فينا الأقارب والجيران والمعارف، حتى إن كبراء رجال العائلة اختلفوا وهم يقسموننا على أنفسهم كالغنائم، ففضح الله أمرهم حتى يُخبرنا ويجعلنا نحتاط منهم، وازدادت عزلتنا ومخاوفنا بعد ذلك من كلِّ شيء في الحياة وقرَّرنا أن نحتسب عند الله، لعل نصيبَنا في الآخرة، ولكن لم يقنع هذا القرار البنت الأخيرة الصغرى، فعاودت الاتصال بأخويها لعل أحدهم يقف بجانبها لو تقدَّم لها عريس. فتركناها تُجرِّب ذلك لعله يُجدي حتى وجدت منهم مثل ما وجدنا، بل وأكثر، فصُدمت ولم تتحمَّل الصدمة، فأعلنت تمرُّدها على كلِّ شيءٍ وعلينا، وأصبحت تُجري أفعالًا لم يكن لديها الجرأة على أن تفعلها علنًا وهي تقول عند معاتبتها: ما دام أنه ليس هناك أحد يحكمني أعمل الذي أريده.
والآن هي تخرج وتأتي متأخرة وتتحدَّث في التليفون إلى أناس لا نعرفهم وتفتعل مشاكل يومية حتى جعلت حياتنا جحيمًا، وتصرخ عند الحديث إليها بشكل هستيري، وقرَّرتُ وقتها أن أستغيث بإخوتي الرجال مُعرِّضةً كرامتي بعد كلِّ هذه السنين إلى المهانة خوفًا عليها وإنقاذًا لها، وهذا ما لم أفعله مع نفسي فيما تعرَّضت له من مشاكل، لكنني لو أخبرتك سيدي بردود أفعالهم وأنا أُحدِّثهم بعد سنواتٍ مُستغيثةً بهم لإنقاذ أختهم الصغرى لارتفع ضغطك أو توقَّف قلبك- حماك الله.
والآن ماذا أفعل سيدي لأنقذ أختي التي فقدت كلَّ إيمانها بالنَّاس والقيم وتسير في طريق لا رجعة منه، وأنا ضعيفة لا أملك مَنْعها أو رَدْعها، ولم يَعُد يُجدي معها أي حديث ديني أو عادي؟ ماذا أفعل؟ أرجوك أختي تضيع ونحن نعيش بجانبها أمواتًا!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه و من والاه؛ أما بعد:
فإن الله جلَّ وعلا أقربُ إلى عباده من حَبْل الوريد(1)، وأرحم بهم من آبائهم ومن أمهاتهم(2)، وإذا تنكَّر لك إخوتكم جميعًا وأغلقوا أبوابَهم دونك فلا تزال أبواب ربِّك مفتوحةً على مصراعيها، ولا يزال ينزل كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا ويقول: «هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيه؟»(3).
لقد وَسِعت رحمته كلَّ شيء(4)، فلا يضيع من اعتصم به وتوكَّل عليه، وإذا أساء إخوتك إليكم وقطعوا أرحامكم فإن الله مِن ورائهم مُحِيطٌ، وهو الذي لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء(5)، ومن يتوكَّل على الله فهو حَسْبه(6)، فأحسني الظَّنَّ بربك واجعلي اعتمادك عليه وحده، فإن الذي خلقك وخلق إخوتك هو الله، والذي يرزقك ويرزقهم هو الله، والذي يُعافيك ويعافيهم هو الله، والذي يُغيثك ويُغيثهم هو الله.
فاستغني عمن استغنى عنك من البشر، ولا تُعلِّقي رجاءك به، وأقبلي على أحوالك فاستصلحيها ما استطعت، وأقبلي على أختك فاستصلحي من أحوالها ما استطعت، ذكِّريها بالله ما استطعت، واستعيني على ذلك بدعاء الأسحار، والصَّلاة بالليل والنَّاسُ نيام، ثم بالصَّالحين من عباد الله من حولك إن آنستِ مِن بعضهم قدرةً على العون ورغبة فيه، وفي النهاية لا تذهب نفسك عليها حسرات؛ فإن السعيد من سعد في بطن أمه، وإن الشَّقيَّ من شقي في بطن أمه، وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]
أسأل اللهَ يا بنيَّتي أن يجعل لكم من ضيقكم فرجًا ومن عسركم يسرًا، اللهم يا قاضي الحاجات فرِّج كربها ويسِّر أمرها وارفع عنها البلاء واكشف عنها العذاب، إنك وليُّ ذلك والقادر عليه. واللهُ تعالى أعلى وأعلم.
______________________
(1) قال تعالى:{﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16].
(2) ففي الحديث المتفق عليه؛ الذي أخرجه البخاري في كتاب «الأدب» باب «رحمة الولد وتقبيله ومعانقته» حديث (5999)، ومسلم في كتاب «التوبة» باب «في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه» حديث (2754)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله ﷺ بسبيٍ؛ فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله ﷺ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْـمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قلنا: لا والله؛ وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله ﷺ: «لَلَّـه أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا».
(3) سبق ذكره وتخريجه في آخر الليل والإجابة فيه» حديث (758).
(4) قال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
(5) قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: 5].
(6) قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].