أنا طبيبة أسنان منتقبة ولدى عيَّادة خاصة مواجهة لشقة أسرتي. أقوم بالكشف على الرجال حيث يكون باب حجرة الكشف مفتوحًا أو مواربًا، والسكرتيرة تدخل وتخرج أثناء عملي. فهل هذا يُعَدُّ هذا خلوةً. أفيدوني أفادكم الله وجزاكم الله كل خيرٍ ونفع بكم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فما ذكرت- وفقك الله- لا يُعد خلوة شرعية؛ فإن ضابط الخلوة عند الفقهاء هي: كل اجتماع امرأة ورجل أجنبي عنها، لا تؤمن معه الريبة عادةً، ويغلبُ على الظَّن ألا يطَّلع عليهما أحدٌ.
ومن ضوابطها:
• الانفراد، فالرجل مع جمع النساء لا يُعتبر خاليًا، والمرأة مع الرجال ليست خالية. فتزول الخلوة بوجود المحرم، أو وجود امرأة صالحة أو رجل صالح على الراجح، لحديث: «لَا يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلَّا وَمَعَهُ رَجُلٌ أو اثْنَانِ»(1).
وقد ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن الخلوة تنتفي بوجود امرأتين مع رجل ولا تنتفي بوجود امرأة مع رجلين، ووجهه أن المرأة تستحي من المرأة فوق ما يستحي الرجل من الرجل. قال في «أسنى المطالب»: «ويجوز لرجل أجنبي أن يخلوَ بامرأتين، لا عكسه، أي: لا يجوز لرجلين أجنبيين أن يخلوَا بامرأة ولو بَعُدَ تواطؤهم على الفاحشة، كما صرَّح به النوويُّ في مجموعه؛ لأن المرأة تستحي من المرأة فوق ما يستحي الرجل من الرجل»(2). انتهى. والحديث المذكور يقوِّي موقف الفريق الآخر.
• أمن الرقيب بحيثُ يكونان في مكان يغلبُ على الظَّن ألا يطَّلع عليهما أحدٌ.
• بلوغ الرجل والمرأة، فالمرأة مع الصغير، والرجل مع الصغيرة لا يُعتبران في خلوة. وقد ذكر النوويُّ رحمه الله أن الصبيَّ الذي لا يستحي منه لصغره لا تنتفي به الخلوة، وقد مثل له بابن سنتين وثلاث.
• انتفاء المحرميَّة بينهما، فالانفراد بالمحارم نسبًا أو صهرًا أو رضاعة ليس خلوة.
• كونُهما من أولي الإربة، فالعِنِّينُ الذي لا يشتهي النساء، والطفل غير الـمُميِّزِ للمفاتن لا تُعتبر خلوته مع المرأة، وكذلك القواعد والدَّميمات والزَّمنى اللائي لا يُشتَهين عادةً لا عبرة بالخلوة بهنَّ.
• احتجاب الأشخاص، فلو شوهدا لم تكن خلوةً ولو لم يُسمع كلامهما.
ومن الأدلة على هذا الأخير ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأةٌ من الأنصار إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فخلَا بها، فقال: «وَالله إِنَّكُنَّ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ»(3).
وعند مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن امرأة كان في عقلها شيءٌ قالت: يا رسول الله إنَّ لي إليك حاجةً، فقال: «يَا أُمَّ فُلَانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ»(4).
وقد عنون البخاريُّ رحمه الله لذلك فقال في «الجامع الصحيح»: باب ما يجوز أن يخلوَ الرجلُ بالمرأة عند الناس. اهـ. وذكر فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فخلا بها فقال: «وَالله إِنَّكُنَّ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ».
قال الحافظ في «الفتح»:
«أي: لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصُهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان بما يخافَتُ به، كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس. وأخذ المصنف قوله في الترجمة: عند الناس، من قوله في بعض طرق الحديث: فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك. وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفكُّ عن مرور الناس غالبًا»(5).
ولكن الأصل أن تباشر الطبيبةُ المسلمةُ الكشفَ على النساء؛ إلا إذا تعذَّر ذلك فتكون هذه هي أحكام الضرورة وليس أحكام الأحوال العادية، وفي قرار المجمع الفقهي نصٌّ على هذا المعنى أسوقه لك تتميًا للفائدة:
قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الرابعة عشر، 20شعبان 1415هـ، الموافق 21/ 1/ 1995م:
1. الأصل الشرعي أنه لا يجوز كشفُ عورةِ المرأة للرجل، ولا العكس، ولا كشف عورة المرأة للمرأة، ولا عورة الرجل للرجل.
2. يؤكد المجمع على ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بقراره رقم 85/ 12/ 85 في 1- 7/ 1/ 1414هـ، وهذا نصُّه:
الأصل أنه إذا توافَرت طبيبةٌ متخصِّصة يجب أن تقومَ بالكشف على المريضة، وإذا لم يتوافر ذلك فتقوم بذلك طبيبة غيرُ مسلمة ثقة، فإذا لم يتوافر ذلك يقوم به طبيب مسلمٌ، وإن لم يتوافر طبيبٌ مسلم، يمكن أن يقوم مقامه طبيب غير مسلم، على أن يطلع من جسم المرأة على قدر الحاجة، في تشخيص المرض ومداواته، وألا يزيد عن ذلك، وأن يغض الطرف قدر استطاعته وأن تتم معالجة الطبيب للمرأة هذه بحضور محرم أو زوج أو امرأة ثقة خشية الخلوة. اهـ.
3. وفي جميع الأحوال المذكورة لا يجوز أن يشترك مع الطبيب، إلا من دعت الحاجة الطبية الملحة لمشاركته، ويجب عليه كتمان الأسرار إن وجدت.
والله تعالى أعلى وأعلم.
__________________
(1) أخرجه مسلم في كتاب «السلام» باب «تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها» حديث (2173) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2) «أسنى المطالب» (3/407).
(3) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «النكاح» باب «ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس» حديث (5234)، ومسلم في كتاب «فضائل الصحابة» باب «من فضائل الأنصار رضي الله تعالى عنهم» حديث (2509).
(4) أخرجه مسلم في كتاب «الفضائل» باب «قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم» حديث (2326).
(5) «فتح الباري» (9/ 333).