السؤال:
يشاع عنكم أنكم ممن يكفِّرُ ببعض الذنوب حتى بدون استحلالها، كما في قولكم في كتاب الثوابت: «اتفق أهل العلم على أن ردَّ التشريع كفر بذاته، ولا يشترط أن يكون معه تكذيب». فما موقفكم من ذلك؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن الجواب على ذلك أن معصيةَ الردِّ إخلالٌ بأصل الدِّين، وأنها تنقض عقدَ الإيمان المجمل، فهي من جنس قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)} [المزمل: 16]. أو قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} [الجن: 23].
وبهذا تختلف هذه المعصية عن بقية المعاصي التي ورد فيها مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
والتي قال فيها السلف: المعاصي من أمور الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك.
والخلط بين هذا وذاك ليس من أصول أهل السنة في شيء، ألم يتفق أهل السنة على أن الإيمان المجمل يقوم على ركنين: تصديق الخبر، والانقياد للشرع، وإن من لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فليس بمؤمن؟!
إن معصيةَ الردِّ هي من جنس معصية إبليس الذي أبى أن يسجد لآدم، و{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} [الأعراف: 12]. فكان الجواب: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 34، 35].
إن العلمانية عندما تتبنى نِحلَةَ الفصل بين الدين والدولة، وإسقاط مرجعية الشريعة وحجية نصوصها قرآنًا وسنةً في علاقة الدين بالدولة أو في علاقة الدين بالحياة، وعندما تردُّ الناس ابتداءً في الدماء والأموال والأعراض إلى كتاب غير القرآن، وإلى متبوع غيرِ محمد ﷺ، لا شك أن وضعَها يختلف عن وضع من يأتي ما يأتي من الذنوب والمعاصي وهو مُقِرٌّ بذنبه، ومعتقد بتحريمه وبطلان موقفه. وهذا هو الشأن في أئمة الجَوْر من المسلمين عبر القرون، الذين كانوا يأتون ما يأتون من المعاصي والمظالم مع إقرارهم بأنهم مذنبون فيما يقترفون، ولم يكونوا في ذلك مستجيزين ولا مستحلين.
ومن ناحية أخرى فإن الحديث عن وصف الأقوال أو الأعمال أو المواقف لا يعني بالضرورة إلحاقَ هذه الأوصاف بكلِّ من جاء بشيء من ذلك على سبيل التعيين، إلا إذا تحقَّقَتْ شروطُ التكفير وانتفت موانعُهُ، كما هو الشأن عند أهل السنة.
ومن ناحية ثالثة فقد عقد الكتاب عناوين رئيسية ومنفصلة حول الردِّ على الخوارج الذين يُكفِّرون بمطلق الذنوب، وأكثرَ في ذلك وأعاد، وكان ينبغي أن يَرُدَّ المتشابِهَ إلى المحكَم، وأن يعرف من خلال هذه الأبواب المستقلة في الرد على الخوارج موقف المصنف من بدعة الخوارج عامة ومن التكفير بمطلق الذنوب خاصة، فقد ذكر اتفاق أهل السنة والجماعة على أن المعاصي من أمور الجاهلية ولا يكفر فاعلها بارتكابها أو الإصرار عليها إلا إذا استحلَّها، وأن أصحاب الكبائر في مشيئة الله إن شاء الله تعالى عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ومن أدلتهم على ذلك:
أولًا: تفريق الشريعة بين الشرك والكفر من ناحية، وبين بقية الذنوب من ناحية أخرى، وذلك في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. ففرقت الآية بين الشرك وبين ما دونه من المعاصي، وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)} [الحجرات: 7]، ففرقت بين الكفر من ناحية وبين الفسوق والعصيان من ناحية أخرى، وقول النبي ﷺ عندما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82]، وشق ذلك على أصحاب النبي ﷺ وقالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال ﷺ: «لَا لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13]»([1])، ففرق ﷺ بين الشرك الذي هو أعظم الظلم وبين ما دونه من المعاصي التي يظلم بها الإنسان نفسه، لكنها لا تخرجه من الملة ولا توجب له الخلود في النار، وصحح لأصحابه ما فهموه من هذه الآية على غير وجهِهِ.
ثانيًا: تفريق الشريعة بين العقوبة المقرِّرة للكفر والردة وبين العقوبات المقرِّرة للمعاصي، فجعلت للكفر حدًّا واحدًا هو القتل: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»([2])، وفاوتت بين عقوبات المعاصي من القطع إلى الجلد إلى الرجم إلى القتل إلى التعزير بحسب نوعها، ولو كان الجميع في مرتبة واحدة، وكانت المعاصي كلها من قبيل الردة لما فرقت بينها هذا التفريق، ولا نطبق عليها جميعًا حدَّ الردة بلا استثناء.
ثالثًا: أحاديث الشفاعة، وفيها شفاعته ﷺ لأهل الكبائر من أمته، ولو كان هؤلاء كفارًا لكانوا مخلدين في نار جهنم، ولم تنفعهم شفاعة الشافعين.
رابعًا: بطلان ما ذهب إليه الخوارج والمرجئة في باب الإيمان من أن الإيمان معنى واحد يذهب كله بذهاب بعضه، فقد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وأنه يتفاوت ويتبعَّض، وأنه قد يجتمع في الرجل كفرٌ وإيمان، وشرك وتوحيد، ونفاق وإخلاص، وطاعة ومعصية، وأن من المعاصي ما ينقض أصل الإيمان، ومنها ما ينقض كماله الواجب، ويبقى أصحابها في مشيئة الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، والأدلة على ذلك مستفيضة من النصوص والآثار ومقالات أهل العلم.
خامسًا: إجماع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وسائر السلف والأئمة على أن المعاصي من أمور الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، وقد عقد البخاري لذلك بابًا في صحيحه فقال (باب المعاصي من أمر الجاهلية): ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي ﷺ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]([3]).
هذا ولا يعني ذلك التهوين من خطورة الإصرار على المعصية، فإن المعاصي بريد الكفر كما أن الحمَّى بريد الموت، ويخشى على صاحبها من سوء الخاتمة، وقد قال ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ»([4])، وإن العبد إذا أذنب الذنب كان كالنكتة السوداء في قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران المشار إليه في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. وإن المداومة على المعصية قد تورث القلب استحلالها، الأمر الذي يعني خروج صاحبها من الملة.
ومع إقرارنا بهذا كله فلا مناص من أن يكون إجراء الحكم بالكفر في الظاهر منضبطًا بالضوابط التي قررتها الشريعة في ذلك، وأن نعلم أن خطأنا في الحكم بإسلام كافر أهون من خطئنا في الحكم بتكفير مسلم، وأن خطأ الإمام في العفو خير من خطئه في العقوبة.
وأخيرًا: نصل إلى ما جاء في السؤال مما ذكرته بقولك: «يُشاع عنكم أنكم ممن يُكفِّر ببعض الذنوب حتى بدون استحلالها»، فما موقفكم من ذلك؟
والجواب على ذلك: إن موقفي هو موقف السلف الصالح في هذه القضية؛ فالذنوب ليست سواءً، وأهلها كذلك ليسوا سواءً، فالذنب الذي ينقض أصل الدين ويذهب عقد الإيمان المجمل، ليس كغيره من بقية الذنوب.
إن سبَّ الرسول ﷺ ذنبٌ، ولكنه يختلف عن غيره من بقية الذنوب التي لا تتضمن إخلالًا بأصل الدِّين، وإن سبَّ عائشة بما برأها الله منه بعد أن جعل الله براءتها قرآنًا يُتلى ذنب، ولكنه يختلف قطعًا عن سب غيرها من بقية الناس، وهكذا.
وعلى هذا فقد تكون التهمة الواردة في السؤال صحيحة، ولكنها موجهة إلى السلف كلِّ السلف، وليس إلى مصنف هذا الكتاب. والله تعالى أعلى وأعلم.
________________
([1]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «أحاديث الأنبياء» باب «قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا}» حديث (3360)، ومسلم في كتاب «الإيمان» باب «صدق الإيمان وإخلاصه» حديث (24)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب «استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم» باب «حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم» حديث (6922)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
([3]) البخاري في كتاب «الإيمان».
([4]) أخرجه أحمد 3818، والطبراني في معجمه الكبير (10500)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2470).