رجل يعمل في مطعم، والمطعم يقدم الخمر لرواده، وصاحب المطعم رجل مسلم يزعم بأنه يصلي ولا يشرب الخمر، إلا أنه يقدمه لزبائنه غير المسلمين، وبعض من يخدمون عنده من المسلمين.
فما حكم الشريعة المطهرة في تقديم الخمر من قبل مسلم لزبائن غير مسلمين؟ وهل تجيز الشريعة المطهرة للمسلم بأن يفتح مطعمًا يقدم فيه الخمر ولحم الخنزير لزبائن غير مسلمين؟ وهل ما يكتسبه هو وعماله المسلمين من مال حلال في نظر الشريعة المطهرة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
لقد تقرر في الشريعة المطهرة أن الخمر أم الخبائث، وأن مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن.
ولم تكتفِ الشريعة المطهرة في أمر الخمر بالنص على التحريم، بل أمرت بمطلق اجتنابها وهو أمر يتجاوز مجرد تعاطيها ليشمل كل صور التعامل بها أو الاقتراب منها بأي وجه من الوجوه، فقال تعالى آمرًا باجتنابها، ومشيرًا إلى طرف من الحكمة في هذا التشريع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿90﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90- 91].
وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شرب الخمر لا يجتمع مع الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» متفق عليه.
وقال عثمان رضى الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الْـخَبَائِثِ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ قَبْلَكُمْ يَتَعَبَّدُ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمًا فَقَالَتْ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ. فَدَخَلَ فَطَفِقَتْ كُلَّمَا يَدْخُلُ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ جَالِسَةٍ وَعِنْدَهَا غُلامٌ وَبَاطِيَةٌ فِيهَا خَمْرٌ، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نَدْعُكَ لِشَهَادَةٍ وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقْتُلَ هَذَا الْغُلامَ أَوْ تَقَعَ عَلَيَّ أَوْ تَشْرَبَ كَأْسًا مِنْ هَذَا الْـخَمْرِ فَإِنْ أَبَيْتَ صِحْتُ بِكَ وَفَضَحْتُكَ».
قال: «فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: اسْقِينِي كَأْسًا مِنْ هَذَا الْـخَمْرِ. فَسَقَتْهُ كَأْسًا مِنَ الْـخَمْرِ. فَقَالَ: زِيدِينِي. فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا وَقَتَلَ النَّفْسَ. فَاجْتَنِبُوا الْـخَمْرَ فَإِنَّهُ، والله لا يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْـخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أَبَدًا لَيُوشِكَنَّ أَحَدُهُمَا يُخْرِجُ صَاحِبَهُ».
وبين في السنة المطهرة ضابط التحريم في هذا المجال، فقال فيما يرويه عنه ابن عمر: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رواه مسلم. وعن عائشة قالت: سئل رسول الله عن البِتْعِ، فقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» متفق عليه.
وأكد على هذا الضابط، وبين سوء المآل الذي ينتظر من يشرب المسكر فيما رواه جابر أن رجلًا قدم من جيشان- وجيشان من اليمن- فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر، فقال النبي: «أَوَمُسْكِرٌ هُوَ؟» قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى الله عز وجل عَهْدًا لِـمَنْ يَشْرَبُ المُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ». قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أو «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» رواه مسلم.
وفيما رواه ابن عمر ب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يُدْمِنُهَا ولَمْ يَتُبْ لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الآخِرَةِ» رواه مسلم.
ونهى عن صناعتها للتداوي وأخبر أنها داء وليست بدواء، فقد روى مسلم عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلِكَنَّهُ دَاءٌ».
وكما نهت الشريعة المطهرة عن شربها فإنها نهت عن بيعها، وبيَّنت أن الذي حرم شربها حرم بيعها، فقد روى مسلم عن ابن عباس أن رجلًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا؟» قال: لا. فسارَّ إنسانًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بِمَ سَارَرْتَهُ؟» فقال: أمرته ببيعها. فقال: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا». قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها. رواه مسلم.
وعن عائشة ل: لما نزلت آيات سورة البقرة عن آخرها خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «حُرِّمَتِ التِّجَارَةُ فِي الخَمْرِ» رواه البخاري.
وروى البخاري عن ابن عباس ب قال: بلغ عمر رضى الله عنه أن فلانًا باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» متفق عليه.
ومعنى جَمَلُوها أي: أذابوها.
هذا وقد لَعَنَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الْـخَمْرِ عَشْرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْـمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْـمُشْتَرِيَ لَـهَا، وَالْـمُشْتَرَاةَ لَهُ.
فكل من اقترب من الخمر بوجه من الوجوه فهو داخل في هذه اللعنة، ولو كان بمجرد الجلوس على موائدها بغير شرب، فإن «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْـخَمْرُ».
وعلى هذا فإن من تلبيسات الشيطان على بعض من استذلهم ما يزينه لهم من الترخص في بيع الخمر لغير المسلمين وادعاء مشروعية ذلك، أو الاعتذار عنه بعدم تناولها في خاصة أنفسهم، وأنهم من المحافظين الذين يقيمون الصلاة! تمامًا كما تأول أحد الناس في زمن عمر شربه للخمر بأنه لا جناح عليه في ذلك ما دام من المتقين الذين يعملون الصالحات! ذهابًا منه إلى فهم مغلوط في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 93].
فبين له عمر بن الخطاب رضى الله عنه خطأه في ذلك، وقال له: لو اتقيت الله ما شربت الخمر.
إن تحريم الخمر في القرآن والسنة تحريم مطلق لا تقييد فيه، وإن الجرم في بيعها لغير المسلمين كالجرم في بيعها للمسلمين، بل قد يكون أشنع باعتباره يمثل صدًّا للناس عن سبيل الله عندما يرون من المسلمين جرأة على دينهم، واستباحة ظاهرة لمحرماته وهجرًا منكرًا لشرائعه وأحكامه. والله تعالى أعلى وأعلم.
بيع الخمر لغير مسلمين
تاريخ النشر : 30 يناير, 2012
التصنيفات الموضوعية: 01 البيع